الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الكسوة - بضمّ الكاف وكسرها - في اللّغة: الثوب يستتر به ويتحلى، والجمع كسًى، مثل مدًى، والكساء: اللّباس، والجمع أكسية، يقال: كسوته ثوباً إذا ألبسته، والكاسي خلاف العاري، وجمعه كساة، ومنه قولهم: أم قوماً عراةً وكساةً. ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنيّ اللّغويّ.
يختلف الحكم التكليفيّ للكسوة بحسب أحوالها، ومن ذلك: 2 - أجمع الفقهاء على أنّه تجب الكسوة للزوجة على زوجها إذا مكنته من نفسها على الوجه الواجب عليها، لقوله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. ولقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وحقّهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهنّ وطعامهنّ». وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف». ولأنّ الكسوة لا بد منها على الدوام، فلزمته كالنفقة، كما أجمعوا على أنّه يجب أن تكون الكسوة كافيةً للمرأة، وأنّ هذه الكفاية تختلف باختلاف طولها وقصرها وسمنها وهزالها، وباختلاف البلاد التي تعيش فيها في الحرّ والبرد. 3 - ولكنّ الفقهاء اختلفوا في بعض التفاصيل: فذهب الحنفية إلى أنّ الكسوة يعتبر فيها حال الزوج في يساره وإعساره لا حال المرأة، هذا في ظاهر الرّواية، والفتوى على أنّ النفقة عامة تجب بحسب حال الزوجين معاً. فعلى ظاهر الرّواية إذا كان الزوج معسراً يكسوها أدنى ما يكفيها من الملابس الصيفية والشتوية، وإن كان متوسّطاً يكسوها أرفع من ذلك بالمعروف، وإن كان غنيّاً كساها أرفع من ذلك بالمعروف. قال الكاسانيّ: وإنّما كانت الكسوة بالمعروف لأنّ دفع الضرر عن الزوجين واجب، وذلك في إيجاب الوسط من الكفاية، وهو تفسير المعروف، فيكفيها من الكسوة في الصيف، قميص وخمار وملحفة وسراويل على قدر حاله من الخشونة واللّيونة والوسطية. فالخشن إذا كان الزوج من الفقراء، والليّن إذا كان من الأغنياء، والوسط إذا كان من الأوساط، وذلك كلّه من القطن والكتان على حسب عادة البلدان، إلا الخمار، فإنّه يفرض على الغنيّ خمار من حرير، ويجب لها كذلك مداس رجلها والإزار، والمكعب وما تنام عليه، وتزاد على ذلك جبة حشويّاً وفروة، لحافاً وفراشاً، وكلّ ما يدفع به أذى الحرّ والبرد، فيجب في الشّتاء جبة وخفّ وجورب لدفع البرد الشديد، ويختلف ذلك باختلاف الأماكن والأزمان والبلدان والأعراف. وتفرض الكسوة للزوجة عند الحنفية في كلّ نصف حول مرةً ; لتجدّد الحاجة حرّاً وبرداً، ويجب تسليم الكسوة إليها في أول هذه المدة ; لأنّها تستحقّها معجلةً لا بعد تمام المدة، إلا أنّه لا يجب عليه أن يجدّد الكسوة ما لم يتخرق ما عندها، فإذا مضت هذه المدة وبقي ما عندها صالحاً لم تجب عليه كسوة أخرى ; لأنّ الكسوة في حقّه باعتبار الحاجة ولهذا يجب عليه أن يصرف لها كسوةً أخرى إذا تخرقت القديمة بالاستعمال المعتاد قبل مضيّ المدة المذكورة ; لظهور الخطأ في التقدير، حيث وقت وقتاً لا تبقى معه الكسوة. أما إذا أسرفت في الاستعمال على وجه غير معتاد، أو سرق منها، أو هلك عندها قبل مضيّ المدة، فلا يجب عليه لها كسوة أخرى. وذهب المالكية، إلى مثل ما ذهب إليه الحنفية في ظاهر الرّواية، فقالوا: وتقدر الكسوة في السنة مرتين، بالشّتاء ما يناسبه من فرو ولبد ولحاف وغير ذلك، وبالصيف ما يناسبه، وهذا إذا لم تناسب كسوة كلّ من الصيف والشّتاء الآخر عادةً، وإلا كفت واحدة إذا لم تخلق، قالوا: ومثل ذلك الغطاء والوطاء صيفاً وشتاءً. وذهب الشافعية والحنابلة، إلى أنّ كسوة الزوجة على قدر كفايتها ; لأنّها ليست مقدرةً من الشرع، ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الحاكم عند المنازعة، فيفرض لها على قدر كفايتها. قال الشافعية: يجب للزوجة على زوجها في كلّ ستة أشهر قميص، وهو ثوب مخيط يستر جميع البدن - وخياطته على الزوج - وسراويل - وهو ثوب مخيط يستر أسفل البدن ويصون العورة - وقد يقوم الإزار أو الفوطة مقام السراويل إذا اعتادت المرأة على لبسهما. وخمار، وهو ما يغطى به الرأس، ومكعب، وهو مداس الرّجل من نعل أو غيره، ويجب لها القبقاب إن اقتضاه العرف. قال الماورديّ: ولو جرت عادة نساء أهل القرى أن لا يلبسن في أرجلهنّ شيئاً في داخل البيوت لم يجب لأرجلهنّ شيء. ويزاد في الشّتاء وفي البلاد الباردة جبة محشوة قطناً، فإن اشتد البرد فجبتان فأكثر بقدر الحاجة لدفع البرد، وقد يقوم الفرو مقام الجبة إذا جرت عادة أهل البلد على لبسها. ويجب لها توابع ما ذكرناه، من كوفية للرأس، وتكة للّباس، وزرّ للقميص والجبة ونحوهما، وقالوا: لا يختلف عدد الكسوة باختلاف يسار الزوج وإعساره، ولكنّهما يؤثّران في الجودة والرداءة. وقال الحنابلة: وأقلّ الكسوة الواجبة قميص وسراويل ومقنّعة ومداس وجبة للشّتاء، ويزيد من عدد الثّياب ما جرت العادة بلبسه مما لا غنى عنه، دون ما للتجمّل والزّينة. فيفرض مثلاً للموسرة تحت الموسر من أرفع الثّياب في البلد، من الكتان، والحرير، والإبريسم، وللمعسرة تحت المعسر غليظ القطن والكتان، وللمتوسّطة تحت المتوسّط المتوسّط من الثّياب، وهكذا يكسوها ما جرت عادة أمثالهما به من الكسوة. ثم قال الحنابلة: على الزوج أن يدفع الكسوة إلى زوجته في كلّ عام مرةً ; لأنّ ذلك هو العادة، ويكون الدفع في أول العام ; لأنّه أول وقت الوجوب فإن بليت الكسوة في الوقت الذي يبلى فيه مثلها لزمه أن يدفع إليها كسوةً أخرى ; لأنّ ذلك وقت الحاجة إليها، وإن بليت قبل ذلك لكثرة دخولها وخروجها أو استعمالها لم يلزمه إبدالها، لأنّه ليس بوقت الحاجة إلى الكسوة في العرف. وإن مضى الزمان الذي تبلى في مثله الثّياب بالاستعمال المعتاد ولم تبل، فهل يلزمه بدلها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه بدلها لأنّها غير محتاجة إلى الكسوة. ثانيهما: يلزمه البدل لأنّ الاعتبار بمضيّ الزمان دون حقيقة الحاجة، بدليل أنّها لو بليت قبل ذلك لم يلزمه بدلها. ولو أهدى إليها كسوةً لم تسقط كسوته. 4 - واختلف الفقهاء فيها لو كساها ثم طلقها أو مات أو ماتت قبل أن تبلى الثّياب، فهل له أن يسترجعها؟ فذهب الحنفية والمالكية وهو الأصحّ عند الشافعية وأحد الوجهين عند الحنابلة، إلى أنّه ليس له أو لورثته الاسترجاع، لأنّه وفاها ما عليه ودفع إليها الكسوة بعد وجوبها عليه، فلم يكن له الرّجوع فيها، كما لو دفع إليها النفقة بعد وجوبها ثم طلقها قبل أكلها، إلا أنّ المالكية اشترطوا مضي أكثر من شهرين بعد دفع الكسوة إليها، فإذا مات أحدهما أو طلقها لشهرين أو أقل، فله استرجاع الكسوة منها. ومقابل الأصحّ عند الشافعية والوجه الثاني عند الحنابلة، أنّ له استرجاع الكسوة منها، لأنّ هذه الكسوة لمدة لم تأت، كنفقة المستقبل، فإذا طلقها قبل مضيّه كان له استرجاعها، كما لو دفع إليها نفقة للمستقبل ثم طلقها قبل انقضاء المدة، وعليه فلو أعطاها كسوة سنة فماتت أو طلقها في أثناء الفصل الأول استرد كسوة الفصل الثاني، كالزكاة المعجلة. ولو لم تقبض الكسوة حتى ماتت في أثناء فصل أو طلقت فيه، استحقت كسوة كلّ الفصل كنفقة اليوم ; لأنّ الكسوة تستحقّ بأول الفصل. وإن لم يعطها الكسوة مدةً من الزمن صارت ديناً عليه يجب قضاؤها وإن كان فقيراً، حكم بها قاض أو لم يحكم. وفي قول عند الشافعية: لا يكون ديناً عليه، لأنّ الكسوة مجرد إمتاع للمرأة، وليس تمليكاً لها، كالمسكن والخادم، بجامع الانتفاع في كلّ مع بقاء العين، بخلاف الطعام، وهذا مذهب الحنفية، إلا إذا استدانت عليه بأمر القاضي، فإن استدانت عليه بأمر القاضي صارت ديناً عليه. أما المالكية فقالوا: إن لم يعطها الكسوة بسبب إعساره، فلا تكون ديناً عليه وإن أيسر بعد ذلك. أما إذا كان غنيّاً ومرت مدة لم يعطها الكسوة، فتجب في ذمته، أي تصير ديناً عليه، سواء فرضها حاكم أو لم يفرض. 5- واختلفوا أيضاً فيما إذا أ أعسر الزوج عن كسوة الزوجة؟ فذهب المالكية، والشافعية على الأظهر، والحنابلة، إلى أنّه إن أعسر الزوج بكسوة زوجته فللزوجة الفسخ إن لم تصبر، لقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. فإذا عجز عن الأول - وهو الإمساك بالمعروف - تعين الثاني ; ولأنّ الكسوة لا بد منها ولا يمكن الصبر عنها ولا يقوم البدن بدونها. قال الشّربينيّ: سكت الشيخان عن الإعسار ببعض الكسوة، وأطلق الفارقيّ أنّ لها الفسخ، والتحرير فيها كما قال الأذرعيّ: ما أفتى به ابن الصلاح، وهو: أنّ المعجوز عنه إن كان مما لا بد منه، كالقميص والخمار وجبة الشّتاء، فلها الخيار، وإن كان منه بدّ كالسراويل والنّعل وبعض ما يفرش والمخدة، فلا خيار. واتفق الجمهور على أنّه إذا ثبت العجز عن الكسوة لم يفرق بينهما إلا بحكم حاكم، ولا يجوز للحاكم أن يفرّق بينهما إلا إذا طلبت المرأة ذلك ; لأنّ هذا من حقّها، فلها أن تصبر وترضى بالمقام معه. وذهب الحنفية إلى أنّه لا يفرق بينهما بسبب عجزه عن الكسوة، بل يفرض الحاكم لها الكسوة ثم يأمرها بالاستدانة لتحيل عليه.
6 - ذهب الفقهاء إلى وجوب كسوة القريب الذي تجب نفقته، بشرط اليسار، لقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}. ولا شك أنّ كسوتها من الإحسان الذي أمرت به الآية، وقوله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} إلى أن قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}. ولقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لهند رضي الله عنها: «خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف». والواجب في كسوة القريب هو قدر الكفاية، لأنّها وجبت للحاجة، فتقدر بما تندفع به الحاجة، مع اعتبار سنّه وحاله وعادة البلد. قال ابن جزيّ من المالكية: ويكون قدرها - أي الكسوة - وجودتها على حسب حال المنفق وعوائد البلاد.
7 - أجمع الفقهاء على أنّ كسوة عشرة مساكين أحد أنواع كفارة اليمين، وأنّ الحالف مخير بين العتق والإطعام والكسوة، لقوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}. ولكنّهم اختلفوا في القدر المجزئ من الكسوة فذهب المالكية والحنابلة ومحمد من الحنفية، إلى أنّها تتقدر بما تصحّ به الصلاة فيه، فإن كان رجلاً فثوب تجزئ الصلاة فيه، وإن كانت امرأةً فدرع وخمار، أي ما تصحّ صلاتها فيه، وذهب الحنفية غير محمد إلى أنّ كسوة المسكين تتقدر بما يصلح لأوساط الناس، ولا يعتبر فيه حال القابض، وقيل: يعتبر في الثوب حال القابض، إن كان يصلح له يجوز وإلا فلا. وبما ينتفع به فوق ثلاثة أشهر ; لأنّها أكثر من نصف مدة الثوب الجديد، وعليه فلا يشترط أن يكون جديداً. وبما يستر عامة البدن كالملاءة أو الجبة أو القميص أو القباء، لا السراويل ; لأنّ لابسه يسمى عرياناً، ولا العمامة ولا القلنسوة إلا باعتبار قيمة الإطعام. وذهب الشافعية إلى أنّه يجزئ في الكسوة الواجبة بسبب الكفارة كلّ ما يسمى كسوةً مما يعتاد لبسه، كقميص أو عمامة أو إزار أو رداء أو طيلسان أو منديل أو جبة أو قباء أو درع من صوف، لا خفّ وقفازان ومكعب وقلنسوة. ولا يشترط صلاحيته للمدفوع إليه فيجوز سراويل صغير لكبير لا يصلح له ; لوقوع اسم الكسوة عليه، ويجوز لبيس لم تذهب قوته، فإن ذهبت قوته فلا يجوز، ولا يجوز نجس العين من الثّياب، ويجوز المتنجّس منه لأنّه يمكن تطهيره، وعليه أن يخبر من يعطيه إياها بتنجّسها حتى يطهّرها منها.
1 - الكشف في اللّغة هو: رفع الحجاب، وكشف الشيء وكشف عنه كشفاً: رفع عنه مما يواريه ويغطّيه، ويقال: كشف الأمر وعنه أي أظهره، وكشف الله غمّه: أزاله، ومنه قوله تعالى في التنزيل: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}، وكشف الثوب عن وجهه ونحوه واكتشفت المرأة: بالغت في إبداء محاسنها. وكشف فلان: انحسر مقدم رأسه، وانهزم في الحرب. ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ، وهو: أن يرفع عن الشيء ما يواريه ويغطّيه.
أ - الغطاء: 2 - الغِطاء - بالكسر - في اللّغة الستر، وهو ما يجعل فوق الشيء من طبق ونحوه، ومنه غطاء المائدة وغطاء الفراش. وقد استعير للجهالة، ومنه قوله تعالى في التنزيل: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ}. والعلاقة بين الكشف والغطاء هي التضادّ.
تتعلق بالكشف الأحكام التالية:
3 - أجمع الفقهاء على أنّ ستر العورة شرط لصحة الصلاة كالطهارة لها، وأنّ من ترك ستر عورته وهو قادر على سترها تبطل صلاته، أو لا تنعقد. والتفصيل في مصطلح (صلاة ف / 120).
4 - يجب على الرجل المحرم بحجّ أو عمرة كشف رأسه ويجب على المرأة المحرمة بحجّ وعمرة كشف وجهها، وكذلك الرجل عند بعض الفقهاء. والتفصيل في مصطلح (إحرام ف / 62، 65).
5 - اتفق الفقهاء على أنّه يحرم على البالغ العاقل أن يكشف عورته أمام غيره، سواء كانت هذه العورة من العورة المغلظة أو من المخففة، وأنّ كشف العورة المغلظة أشدّ من كشف العورة المخففة، سواء كان هذا من الرجل أو من المرأة، للاتّفاق على أنّها عورة، وأنّها أفحش من غيرها في الكشف والنظر، ولهذا سمّي القبل والدّبر - وهما من العورة المغلظة باتّفاق - السوأتين لأنّ كشفهما يسوء صاحبه، قال الله تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا}. كما اتفقوا على أنّ حرمة النظر إلى العورة المغلظة أشدّ من حرمة النظر إلى العورة المخففة. 6- ويستثنى من ذلك ما يلي: أ - ما بين الزوجين، فيجوز باتّفاق الفقهاء أن يكشف كلّ من الزوجين عورته للآخر، والتفصيل في (عورة ف / 11). ب - إذا دعت الضرورة أو الحاجة إلى كشف العورة، فيجوز للإنسان أن يكشف عورته لأجل الحاجة، كالعلاج والفصد والحجامة والختان وغير ذلك، كما يجوز له أن يكشفها للشهادة تحمّلاً وأداءً بشرط أن يكون ذلك كلّه بقدر الحاجة، فلا يجوز له أن يكشف من عورته أكثر من الحاجة كما لا يجوز للناظر أن ينظر أكثر مما دعت إليه الحاجة ; لأنّها تقدر بقدرها (ر: عورة ف / 17 - 18).
7 - اختلف الفقهاء في حكم كشف العورة في الخلوة. فقال بعضهم: لا يجوز كشف العورة في الخلوة إلا لحاجة، كتغوّط واستنجاء وغيرهما، لإطلاق الأمر بالسّترة، وهو يشمل الخلوة والجلوة ; ولأنّ الله سبحانه وتعالى أحقّ أن يستحيا منه، وهو سبحانه وتعالى وإن كان يرى المستور كما يرى المكشوف، لكنّه يرى المكشوف تاركاً للأدب والمستور متأدباً، وهذا الأدب واجب مراعاته عند القدرة عليه، وهذا رأي جمهور الفقهاء. وذهب بعض الفقهاء إلى جواز كشف العورة في الخلوة من غير حصول حاجة، قال صاحب الذخائر: يجوز كشف العورة في الخلوة لأدنى غرض، ولا يشترط حصول الحاجة، ثم قال: ومن الأغراض كشف العورة للتبريد وصيانة الثوب من الأدناس والغبار عند كنس البيت وغيره. قال ابن عابدين: وحكى في القنية أقوالاً في تجرّده للاغتسال منفرداً، منها أنّه يكره، ومنها: أنّه يعذر إن شاء الله، ومنها: أنّه يجوز في المدة اليسيرة، ومنها: أنّه يجوز في بيت الحمام الصغير، ومنها: أنّه لا بأس.
1 - الكعب في اللّغة العقدة بين الأنبوبين من القصب، وكعبا الرجل: هما العظمان الناشزان من جانبي القدم، قال الأزهريّ: الكعبان: الناتئان في منتهى الساق مع القدم عن يمنة القدم ويسرتها. وقال ابن الأعرابيّ وجماعة: الكعب هو المفصل بين الساق والقدم والجمع كعوب وأكعب وكعاب، وأنكر الأصمعيّ قول الناس: إنّ الكعب في ظهر القدم. والكعب عند جمهور الفقهاء هو: العظم الناتئ عند ملتقى الساق والقدم. وقال الشافعيّ رحمه الله: لم أعلم مخالفاً في أنّ الكعبين هما العظمان في مجمع مفصل الساق. وقال الحنفية: الكعب يطلق على ما تقدم من قول الجمهور وعلى العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشّراك، ويؤخذ المعنى الأول في الوضوء ويؤخذ المعنى الثاني في الإحرام بالحجّ احتياطاً.
2 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يجب في الوضوء غسل القدمين إلى الكعبين، لقول الله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}. والتفصيل في مصطلح (وضوء).
3 - من لم يجد نعلين في الإحرام فإنّه يقطع الخفين أسفل من الكعبين ويلبسهما، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النّعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين». وهذا عند الجمهور، والمعتمد عند الحنابلة أنّه لا يقطع الخفين. وفسر الجمهور الكعبين اللذين يقطع الخفّ أسفل منهما بأنّهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، وفسره الحنفية بالمفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشّراك. والتفصيل في مصطلح (إحرام ف / 95).
4 - من شروط الخفّ الذي يجوز المسح عليه في الوضوء أن يكون ساتراً محل فرض الغسل في الوضوء، وهو القدم بكعبه من سائر الجوانب. والتفصيل في مصطلح (مسح على الخفين).
5 - ذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ موضع قطع رجل السارق هو مفصل الكعب، وفعل عمر رضي الله عنه ذلك. وحكي عن قوم من السلف: أنّه يقطع من نصف القدم من معقد الشّراك، ويترك له العقب، لأنّ عليّاً رضي الله عنه كان يفعل ذلك ويدع له عقباً يمشي عليها،وحكي هذا عن أبي ثور. ويراعى في كيفية قطع رجل قاطع الطريق ما يراعى في قطع السارق. ر: (حرابة ف / 20، وسرقة ف / 66).
1 - الكعبة في اللّغة البيت المربع وجمعه كعاب. قال ابن منظور: والكعبة البيت الحرام. سمّيت بذلك لتربيعها، والتكعيب: التربيع، وأكثر بيوت العرب مدورة لا مربعة، وقيل: سمّيت كعبةً لنتوئها وبروزها، وكلّ بارز كعب، مستديرًا أو غير مستدير، ومنه كعب القدم. قال تعالى {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ} الآية. وفي الاصطلاح تطلق على البيت الحرام، قال النّوويّ في تهذيب الأسماء واللّغات: والكعبة المعظمة البيت الحرام.
أ - القبلة: 2 - القبلة - بكسر القاف - في اللّغة: الجهة وكلّ ما يستقبل من الشيء. وفي الاصطلاح: جهة يُصلّى نحوها مما يحاذي الكعبة أو جهتها، وغلب هذا الاسم على هذه الجهة حتى صار كالعلم لها وصارت معرفةً عند الإطلاق، وإنّما سمّيت بذلك لأنّ الناس يقابلونها في صلاتهم والقبلة أعمّ من الكعبة. ب - المسجد الحرام: 3 - يطلق المسجد الحرام ويراد به الكعبة، وقد يطلق ويراد به الكعبة وما حولها، وقد يراد به مكة كلّها، وقد يراد به مكة كلّها مع الحرم حولها بكماله. وقد جاءت النّصوص الشرعية بهذه الأقسام الأربعة. انظر مصطلح (المسجد الحرام). فعلى الإطلاق الأول وأنّه يراد به الكعبة، يكون مساوياً لها، وعلى غيره تكون الكعبة أخص.
4 - لا خلاف في أنّ من شروط صحة الصلاة استقبال الكعبة لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} وقال الفقهاء إنّ من يعاين الكعبة فعليه إصابة عينها، أي مقابلة ذات بناء الكعبة يقينًا ولا يكفي الاجتهاد ولا استقبال جهتها، وأما غير المعاين ففيه خلاف بين الفقهاء. والتفصيل في (استقبال ف / 9، 12).
5 - قال الشافعية والحنفية: الصلاة في جوف الكعبة جائزة فرضاً كانت أو نفلاً. واستدلّوا بحديث ابن عمر: «أنّه أتى فقيل له: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، فقال ابن عمر: فأقبلت والنبيّ صلى الله عليه وسلم قد خرج وأجد بلالاً قائماً بين البابين فسألت بلالاً فقلت: أصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم، ركعتين بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخلت، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين». ونص الشافعية على أنّ الصلاة في جوف الكعبة صحيحة إذا استقبل المصلّي جدارها أو بابها مردوداً أو مفتوحاً مع ارتفاع عتبته ثلثي ذراع لأنّه يكون متوجهاً إلى الكعبة أو جزء منها أو إلى ما هو كالجزء منها. وقال المالكية والحنابلة: الصلاة في جوف الكعبة جائزة نفلاً لا فرضاً. واستدلّوا بحديث ابن عباس قال: «لما دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلّها ولم يصلّ حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال: هذه القبلة»، فحملوا حديث ابن عباس هذا على الفرض، وحملوا حديث ابن عمر المتقدّم على النّفل جمعاً بين الأدلة. وقال ابن جرير وجماعة من الظاهرية وأصبغ بن الفرج من المالكية - وحكي عن ابن عباس - لا تجوز الصلاة في جوف الكعبة لا فرضاً ولا نفلاً. والتفصيل في مصطلح (استقبال ف / 12 وما بعدها).
6 - ذهب المالكية والحنابلة إلى أنّه لا تصحّ الفريضة على ظهر الكعبة، واستدلّوا بأنّه لم يستقبل شيئاً من الكعبة، والهواء ليس هو الكعبة والمطلوب استقبالها. وذهب الحنفية والشافعية وهو رواية عن الحنابلة إلى أنّه تصحّ الفريضة على ظهر الكعبة، واشترط الشافعية والحنابلة في الرّواية الثانية أن يقف آخر السطح أو العرصة ويستقبل الباقي، أو يقف وسطهما ويكون أمامه شاخص من أجزاء الكعبة بقدر ثلثي ذراع لأنّه إذا كان السطح أمامه كلّه أو كان أمامه شاخص فهو مستقبل للقبلة وإلا لم تصح بدون ما تقدم. واستدل الحنفية بأنّه مستقبل لهوائها والكعبة عندهم هواء لا بناء، إلا أنّهم نصوا على كراهة الصلاة لما فيه من إساءة الأدب بالاستعلاء عليها وترك تعظيمها. أما النافلة فتصحّ فوقها عند الحنابلة والشافعية إذا كان أمامه شاخص. وعن المالكية في النافلة المؤكدة المنع ابتداءً والجواز بعد الوقوع، وكذا الحنفية يجيزون النافلة عليها من باب أولى ; لأنّهم يجيزون الفرض عليها. أما الصلاة في الأسطح المجاورة لها والمرتفعات كجبل أبي قبيس وغيره من المواضع العالية فتصحّ وهذا موضع اتّفاق عند الجميع
7 - مقتضى مذهب الحنفية الجواز، قال الحصكفيّ: والمعتبر في القبلة العرصة لا البناء فهي من الأرض السابعة إلى العرش. أما الصلاة تحت الكعبة فلا تصحّ عند المالكية مطلقاً فرضاً كانت أو نفلاً لأنّ ما تحت المسجد لا يعطى حكمه بحال، ألا ترى أنّه يجوز للجنب الدّخول تحته ولا يجوز له الطيران فوقه. وتجوز الصلاة في مكان أسفل من الكعبة عند الحنابلة وعللوا بأنّ الواجب استقبال الكعبة وما يسامتها من فوقها أو تحتها بدليل ما لو زالت الكعبة - والعياذ بالله - أنّه يستقبل محلّها وهذا موضع وفاق لا خلاف فيه.
1 - الكفء في اللّغة: النّظير والمساوي، وهذا كفاء هذا وكفيئه وكفؤه، أي مثله، وفلان كفء فلانة إذا كان يصلح لها بعلاً، والجمع أكفاء، وفي الحديث: «المؤمنون تكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم». وكلّ شيء ساوى شيئاً فهو مكافئ له. ولا يخرج استعمال الفقهاء للفظ الكفء عن المعنى اللّغويّ.
2 - تزويج المرأة بالزوج الكفء أمر واجب على الأولياء الذين لهم حقّ الإجبار وذلك عند جمهور الفقهاء - الشافعية والحنابلة وأبي يوسف ومحمد من الحنفية - لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يزوّج النّساء إلا الأولياء، ولا يزوجن إلا من الأكفاء». قال الكمال بن الهمام: لا يخفى أنّ الظاهر من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يزوجن إلا من الأكفاء» أنّ الخطاب للأولياء نهياً لهم أن يزوّجوهنّ إلا من الأكفاء. ثم قال الكمال: ومقتضى الأدلة التي ذكرناها الوجوب، أعني وجوب نكاح الأكفاء، ثم هذا الوجوب يتعلق بالأولياء حقّاً لها، ويتعلق بها حقّاً للأولياء. لكن إنّما تتحقق المعصية في حقّ الأولياء إذا كانت صغيرةً ; لأنّها إذا كانت كبيرةً لا ينفذ عليها تزويجهم إلا برضاها فتكون حينئذ تاركةً لحقّها. والتفصيل في (كفاءة).
3 - لا يجوز للوليّ غير المجبر تزويج مولّيته بغير كفء دون رضاها باتّفاق الفقهاء. فأما إذا زوجها بغير كفء برضاها جاز النّكاح لأنّ الكفاءة حقّ المرأة والأولياء، فإذا اتفقت معهم على تركها جاز. واستدل الفقهاء على ذلك بأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم زوج بناته، ولا أحد يكافئه. وقد «أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس وهي قرشية بنكاح أسامة بن زيد وهو مولى للنبيّ صلى الله عليه وسلم». والتفصيل في (كفاءة).
4 - لو كان للمرأة أكثر من وليّ ورضي أحدهم أو بعضهم بتزويجها من غير كفء برضاها دون رضا الباقين. فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ النّكاح يصحّ ويكون لمن لم يرض من الأولياء حقّ الاعتراض. وقال بعضهم: إنّ النّكاح باطل ; لأنّ الكفاءة حقّ للجميع. على تفصيل يذكر في مصطلح (كفاءة).
5 - لو طلبت المرأة من الوليّ أن يزوّجها من كفء يفترض عليه تزويجها منه فامتنع يصير عاضلاً، وينوب القاضي منابه في التزويج، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء، قال معقل بن يسار: «زوجت أختاً لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها ; لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوجها إياه». ولو رغبت المرأة في كفء بعينه وأراد الوليّ تزويجها من كفء غيره، فقد قال المالكية: كفؤها أولى أي مقدم إن لم تكن مجبرةً أو كانت مجبرةً وتبين ضررها، فيأمره الحاكم أن يزوّجها من رضيت به، ثم إن امتنع سأله عن وجه امتناعه، فإن رآه صواباً زجرها وردها إليه، وإلا عد عاضلاً، وزوج الحاكم المرأة لخاطبها الذي رضيت به. وقال الشافعية: لو عينت المجبرة كفئاً، وأراد الأب أو الجدّ كفئاً غيره فله ذلك في الأصحّ، لأنّه أكمل نظرا منها. ومقابل الأصحّ: يلزمه إجابتها إعفافاً لها، واختاره السّبكيّ، أما غير المجبرة فالمعتبر من عينته جزماً كما اقتضاه كلام الشيخين ; لأنّ أصل تزويجها يتوقف على إذنها. ويتعين عند الحنابلة تزويجها من الذي رغبت فيه إذا كان كفئاً، قال ابن قدامة: إن رغبت في كفء بعينه وأراد تزويجها لغيره من أكفائها وامتنع من تزويجها من الذي أرادته كان عاضلاً لها.
1 - الكفاءة لغةً: المماثلة والمساواة، يقال: كافأ فلان فلاناً مكافأةً وكفاءً وهذا كفاء هذا وكفؤه: أي مثله، يكون هذا في كلّ شيء، وفلان كفء فلانة: إذا كان يصلح بعلاً لها، والجمع أكفاء. وفي الاصطلاح: يختلف تعريف الكفاءة باختلاف موطن بحثها: في القصاص، أو المبارزة، أو النّكاح. ففي النّكاح: عرفها الحنفية بأنّها مساواة مخصوصة بين الرجل والمرأة. وعرفها المالكية: بأنّها المماثلة والمقاربة في التديّن والحال، أي السلامة من العيوب الموجبة للخيار. وعرفها الشافعية: بأنّها أمر يوجب عدمه عاراً. وعرفها الحنابلة: بأنّها المماثلة والمساواة في خمسة أشياء أما في القصاص، فقد عرفها الشافعية: بأنّها مساواة القاتل القتيل بأن لا يفضله بإسلام أو أمان أو حرّية أو أصلية أو سيادة. وفي المبارزة عرفها الحنابلة: بأن يعلم الشخص الذي يخرج لها من نفسه القوة والشجاعة، وأنّه لن يعجز عن مقاومة خصمه.
2 - اختلف الفقهاء في الحكم التكليفيّ لاعتبار الكفاءة في النّكاح: فذهب الحنفية والحنابلة إلى أنّه يجب اعتبارها فيجب تزويج المرأة من الأكفاء، ويحرم على وليّ المرأة تزويجها بغير كفء. وذهبوا إلى أنّ الكفاءة تعتبر في جانب الرّجال للنّساء، ولا تعتبر في جانب النّساء للرّجال، لأنّ النّصوص وردت باعتبارها في جانب الرّجال خاصةً، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لا مكافئ له، وقد تزوج من أحياء العرب، وتزوج صفية بنت حييّ رضي الله تعالى عنها، وقال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: الرجل تكون له الأمة فيعلّمها فيحسن تعليمها، ويؤدّبها فيحسن تأديبها، فيتزوجها، فله أجران» ; ولأنّ المعنى الذي شرعت الكفاءة من أجله يوجب اختصاص اعتبارها بجانب الرّجال ; لأنّ المرأة هي التي تستنكف لا الرجل، فهي المستفرشة، والزوج هو المستفرش، فلا تلحقه الأنفة من قبلها، إذ إنّ الشريفة تأبى أن تكون فراشاً للدنيّ، والزوج المستفرش لا تغيظه دناءة الفراش، وكذلك فإنّ الولد يشرف بشرف أبيه لا بأمّه. ونقل عن أبي يوسف ومحمد أنّ الكفاءة في جانب النّساء معتبرة. قال الكمال: مقتضى الأدلة وجوب إنكاح الأكفاء، وهذا الوجوب يتعلق بالأولياء حقّاً لها، وبها حقّاً لهم لكن إنّما تتحقق المعصية في حقّهم إذا كانت صغيرةً ; لأنّها إذا كانت كبيرةً لا ينفذ عليها تزويجهم إلا برضاها، فهي تاركة لحقّها، كما إذا رضي الوليّ بترك حقّه حيث ينفذ. وقال الحنابلة: يحرم على وليّ المرأة تزويجها بغير كفء بغير رضاها لأنّه إضرار بها وإدخال للعار عليها، ويفسق الوليّ بتزويجها بغير كفء دون رضاها، وذلك إن تعمده. واختلف الرأي عند المالكية: فقال خليل: للمرأة وللوليّ تركها.. أي الكفاءة. وقال الدردير: لهما معاً تركها وتزويجها من فاسق سكّير يؤمن عليها منه، وإلا رده الإمام وإن رضيت، لحقّ الله تعالى ; حفظاً للنّفوس وكذا تزويجها من معيب، لكنّ السلامة من العيوب حقّ للمرأة فقط، وليس للوليّ فيه كلام. وقال الدّسوقيّ: حاصل ما في المسألة أنّ ظاهر ما نقله الحطاب وغيره واستظهره الشيخ ابن رحال منع تزويجها من الفاسق ابتداءً وإن كان يؤمن عليها منه وأنّه ليس لها ولا للوليّ الرّضا به، وهو ظاهر ; لأنّ مخالطة الفاسق ممنوعة، وهجره واجب شرعاً، فكيف بخلطة النّكاح. وقال الشافعية: يكره التزويج من غير كفء عند الرّضا إلا لمصلحة. وقال العزّ بن عبد السلام: يكره كراهةً شديدةً التزويج من فاسق إلا ريبةً تنشأ من عدم تزويجها له، كأن خيف زناه بها لو لم ينكحها، أو يسلّط فأجراً عليها. 3 - واختلف الفقهاء - كذلك - في حكم الكفاءة من حيث اعتبارها في النّكاح أو عدم اعتبارها، وهل هي - في حال اعتبارها - شرط في صحة النّكاح أم في لزومه: فذهب الشافعية، والحنفية في ظاهر الرّواية، وهو المعتمد عند المالكية الذي شهره الفاكهانيّ، والمذهب عند أكثر متأخّري الحنابلة والأصحّ كما قال في المقنع والشرح، إلى أنّ الكفاءة تعتبر للزوم النّكاح لا لصحته غالباً، فيصحّ النّكاح مع فقدها ; لأنّها حقّ للمرأة وللأولياء، فإن رضوا بإسقاطها فلا اعتراض عليهم وهو ما روي عن عمر وابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز وعبيد بن عمير، وحماد بن أبي سليمان وابن سيرين. واستدلّوا بأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم زوج بناته ولا أحد يكافئه، وبأنّه «صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس وهي قرشية أن تنكح أسامة بن زيد مولاه، فنكحها بأمره»، «وزوج صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية»، وبأنّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة تبنى سالماً وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، وبأنّ الكفاءة لا تخرج عن كونها حقّاً للمرأة والأولياء، فلم يشترط وجودها. ووجه اعتبارها عندهم، أنّ انتظام المصالح يكون عادةً بين المتكافئين، والنّكاح شرع لانتظامها، ولا تنتظم المصالح بين غير المتكافئين، فالشريفة تأبى أن تكون مستفرشةً للخسيس، وتعير بذلك ; ولأنّ النّكاح وضع لتأسيس القرابات الصّهرية، ليصير البعيد قريباً عضداً وساعداً، يسرّه ما يسرّك، وذلك لا يكون إلا بالموافقة والتقارب، ولا مقاربة للنّفوس عند مباعدة الأنساب، والاتّصاف بالرّقّ والحرّية، ونحو ذلك، فعقده مع غير المكافئ قريب الشبه من عقد لا تترتب عليه مقاصده. وذهب الحنفية - في رواية الحسن المختارة للفتوى عندهم - واللخميّ وابن بشير وابن فرحون وابن سلمون - من المالكية - وهو رواية عن أحمد.. إلى أنّ الكفاءة شرط في صحة النّكاح، قال أحمد: إذا تزوج المولى العربية فرّق بينهما، وقال في الرجل يشرب الشراب: ما هو بكفء لها يفرق بينهما، وقال: لو كان المتزوّج حائكًا فرقت بينهما، لقول عمر رضي الله تعالى عنه: " لأمنعنّ فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء ". ولقول سلمان رضي الله عنه: ثنتان فضلتمونا بها يا معشر العرب، لا ننكح نساءكم ولا نؤمّكم، ولأنّ التزوّج مع فقد الكفاءة تصرّف في حقّ من يحدث من الأولياء بغير إذنه، فلم يصح، كما لو زوجها بغير إذنها. وذهب الكرخيّ والجصاص وهو قول سفيان الثوريّ والحسن البصريّ إلى عدم اعتبار الكفاءة، وقالوا: إنّها ليست بشرط في النّكاح أصلاً، واحتجّوا بما روي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه، قال: وكان حجَّاماً»، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزويج عند عدم الكفاءة ولو كانت معتبرةً لما أمر، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربيّ على عجميّ ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى»، وبأنّ الكفاءة لو كانت معتبرةً في الشرع لكان أولى الأبواب بالاعتبار بها باب الدّماء، لأنّه يحتاط فيه ما لا يحتاط في سائر الأبواب، ومع هذا لم تعتبر، حتى يقتل الشريف بالوضيع، فهاهنا أولى، والدليل عليه أنّها لم تعتبر في جانب المرأة، فكذا في جانب الزوج. وقال الشافعية: إنّ الكفاءة وإن كانت لا تعتبر لصحة النّكاح غالباً بل لكونها حقّاً للوليّ والمرأة إلا أنّها قد تعتبر للصّحة كما في التزويج بالإجبار.
4 - ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنّ الكفاءة تعتبر عند عقد النّكاح، فلو كان الزوج عند عقد النّكاح مستوفياً لخصال الكفاءة ثم زالت هذه الخصال أو اختلت، فإنّ العقد لا يبطل بذلك.. وهذا في الجملة، ولكلّ منهم في ذلك تفصيل: فقال الحنفية: تعتبر الكفاءة عند ابتداء العقد، فلا يضرّ زوالها بعده، فلو كان وقته كفؤاً ثم زالت كفاءته لم يفسخ، وأما لو كان دباغاً فصار تأجراً، فإن بقي عارها لم يكن كفؤاً، وإن تناسى أمرها لتقادم زمانها كان كفؤاً. وقال الشافعية: العبرة في خصال الكفاءة بحالة العقد، نعم إن ترك الحرفة الدنيئة قبله لا يؤثّر إلا إن مضت سنة - كما أطلقه جمع - وهو واضح إن تلبس بغيرها، بحيث زال عنه اسمها ولم ينسب إليها أصلاً، وإلا فلا بد من مضيّ زمن يقطع نسبتها عنه، بحيث لا يعير بها، وقد بحث ابن العماد والزركشيّ أنّ الفاسق إذا تاب لا يكافئ العفيفة، وصرح ابن العماد في موضع آخر بأنّ الزاني المحصن وإن تاب وحسنت توبته لا يعود كفؤاً، كما لا تعود عفته، وبأنّ المحجور عليه بسفه ليس بكفْء للرشيدة. وقالوا: إنّ طروّ الحرفة الدنيئة لا يثبت الخيار. وهو الأوجه ; لأنّ الخيار في النّكاح بعد صحته لا يوجد إلا بالأسباب الخمسة المنصوص عليها في بابه، وبالعتق تحت رقيق. وقال الحنابلة: لو زالت الكفاءة بعد العقد فللزوجة فقط الفسخ دون أوليائها، كعتقها تحت عبد ; ولأنّ حق الأولياء في ابتداء العقد لا في استدامته.
5 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الكفاءة حقّ للمرأة وللأولياء ; لأنّ لها الحق في أن تصون نفسها عن ذلّ الاستفراش لمن لا يساويها في خصال الكفاءة، فكان لها حقّ في الكفاءة أما الأولياء فإنّهم يتفآخرون بعلوّ نسب الختن، ويتعيرون بدناءة نسبه، فيتضررون بذلك، فكان لهم أن يدفعوا الضرر عن أنفسهم بالاعتراض على نكاح من لا تتوافر فيه خصال الكفاءة فاقتضى ذلك تقرير الحقّ لهم في الكفاءة. وللفقهاء فيما وراء ذلك تفصيل: قال الشافعية: الكفاءة حقّ للمرأة والوليّ واحداً كان أو جماعةً مستوين في درجة، فلا بد مع رضاها بغير الكفء من رضا الأولياء به، لا رضا أحدهم، فإنّ رضا أحدهم لا يكفي عن رضا الباقين ; لأنّ لهم حقّاً في الكفاءة فاعتبر رضاهم بتركها كالمرأة، فإن تفاوت الأولياء، فللوليّ الأقرب أن يزوّجها بغير الكفء برضاها، وليس للوليّ الأبعد الاعتراض، فلو كان الذي يلي أمرها السّلطان، فهل له تزويجها بغير الكفء إذا طلبته؟ قال النّوويّ: قولان أو وجهان أصحّهما المنع، لأنّه كالنائب، فلا يترك الحظ. وقال الحنابلة: الكفاءة حقّ للمرأة والأولياء كلّهم، القريب والبعيد، حتى من يحدث منهم بعد العقد ; لتساويهم في لحوق العار بفقد الكفاءة.
6 - الكفاءة معتبرة في النّكاح لدفع العار والضّرار، وخصالها أي الصّفات المعتبرة فيها ليعتبر في الزوج مثلها في الجملة، هي: الدّين، والنّسب وقد يعبر عنه بالحسب، والحرفة، والحرّية، والمال، والتنقّي من العيوب المثبتة للخيار، لكنّ الفقهاء لم يتفقوا على اعتبارها كلّها كاملةً، بل كان لهم فيها تفصيل وخلاف: أ - الدّين: 7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من خصال الكفاءة الدّين، أي المماثلة والمقاربة بين الزوجين في التديّن بشرائع الإسلام، لا في مجرد أصل الإسلام، ولهم فيما وراء ذلك تفصيل: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لو أنّ امرأةً من بنات الصالحين زوجت نفسها من فاسق، كان للأولياء حقّ الاعتراض ; لأنّ التفاخر بالدّين أحقّ من التفاخر بالنّسب والحرّية والمال، والتعيير بالفسق أشدّ وجوه التعيير وقال محمد: لا تعتبر الكفاءة في الدّين ; لأنّ هذا من أمور الآخرة، والكفاءة من أحكام الدّنيا، فلا يقدح فيها الفسق إلا إذا كان شيئاً فاحشاً، بأن كان الفاسق ممن يسخر منه ويضحك عليه ويصفع، فإن كان ممن يهاب منه، بأن كان أميراً قتالاً فإنّه يكون كفئاً لأنّ هذا الفسق لا يعدّ شيئاً في العادة، فلا يقدح في الكفاءة. وعن أبي يوسف أنّ الفاسق إن كان معلناً لا يكون كفئاً وإن كان مستتراً يكون كفئاً. وقال المالكية: المراد بالدّين الإسلام مع السلامة من الفسق، ولا تشترط المساواة في الصلاح، فإن فقد الدّين وكان الزوج فاسقاً فليس بكفء. وقال الشافعية: من خصال الكفاءة الدّين والصلاح والكفّ عما لا يحلّ، والفاسق ليس بكفء للعفيفة، وغير الفاسق - عدلاً كان أو مستوراً - كفء لها، ولا تعتبر الشّهرة بالصلاح، فغير المشهور بالصلاح كفء للمشهورة به، والفاسق كفء للفاسقة مطلقاً إلا إن زاد فسقه أو اختلف نوعه كما بحثه الإسنويّ، والمبتدع ليس بكفء للعفيفة أو السّنّية. وقال الحنابلة: الدّين مما يعتبر في الكفاءة، فلا تزوج عفيفة عن الزّنا بفاجر، أي بفاسق بقول أو فعل أو اعتقاد، قال أحمد في رواية أبي بكر: لا يزوّج ابنته من حروريّ قد مرق من الدّين، ولا من الرافضيّ ولا من القدريّ، فإن كان لا يدعو فلا بأس، ولا تزوج امرأة عدل بفاسق كشارب خمر، لأنّه ليس بكفء، سكر منها أو لم يسكر، وكذلك من سكر من خمر أو غيرها من المسكر ليس بكفء، قال إسحاق إذا زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمه. ب - النّسب: 8 - من الخصال المعتبرة في الكفاءة عند الحنفية، والشافعية، والحنابلة النّسب، وعبر عنه الحنابلة بالمنصب، واستدلّوا على ذلك بقول عمر رضي الله تعالى عنه: لأمنعنّ فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء، وفي رواية قلت: وما الأكفاء؟ قال: في الأحساب ; ولأنّ العرب يعتمدون الكفاءة في النّسب ويتفآخرون برفعة النّسب، ويأنفون من نكاح الموالي، ويرون ذلك نقصاً وعاراً ; ولأنّ العرب فضلت الأمم برسول الله صلى الله عليه وسلم. والاعتبار في النّسب بالآباء ; لأنّ العرب تفتخر به فيهم دون الأمهات، فمن انتسبت لمن تشرف به لم يكافئها من لم يكن كذلك، فالعجميّ أباً وإن كانت أمّه عربيةً ليس كفء عربية وإن كانت أمّها عجميةً، لأنّ الله تعالى اصطفى العرب على غيرهم، وميزهم عنهم بفضائل جمةً، كما صحت به الأحاديث. وذهب مالك وسفيان الثوريّ إلى عدم اعتبار النّسب في الكفاءة، قيل لمالك: إنّ بعض هؤلاء القوم فرقوا بين عربية ومولًى، فأعظم ذلك إعظاماً شديداً وقال: أهل الإسلام كلّهم بعضهم لبعض أكفاء، لقول الله تعالى في التنزيل: {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وكان سفيان الثوريّ يقول: لا تعتبر الكفاءة في النّسب ; لأنّ الناس سواسية بالحديث، قال صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى»، وقد تأيد ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، ولجمهور الفقهاء القائلين باعتبار النّسب في الكفاءة بعد اتّفاقهم على ما سبق تفصيل: قال الحنفية: قريش بعضهم لبعض أكفاء، والعرب بعضهم لبعض أكفاء، والموالي بعضهم لبعض أكفاء، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قريش بعضهم أكفاء لبعض، والعرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل إلا حائك أو حجام». وقالوا: القرشيّ كفء للقرشية على اختلاف القبيلة، ولا يعتبر التفاضل فيما بين قريش في الكفاءة، فالقرشيّ الذي ليس بهاشميّ كالتيميّ والأمويّ والعدويّ كفء للهاشمية لقوله صلى الله عليه وسلم: «قريش بعضهم أكفاء لبعض» وقريش تشتمل على بني هاشم وإن كان لبني هاشم من الفضيلة ما ليس لسائر قريش، لكنّ الشرع أسقط اعتبار تلك الفضيلة في باب النّكاح ما عرفنا ذلك بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم «زوج ابنتيه من عثمان رضي الله تعالى عنه، وكان أمويّاً لا هاشميّاً»، وزوج عليّ رضي الله عنه ابنته من عمر رضي الله عنه ولم يكن هاشميّاً بل عدويّاً، فدل على أنّ الكفاءة في قريش لا تختصّ ببطن دون بطن. واستثنى محمد بيت الخلافة، فلم يجعل القرشي الذي ليس بهاشميّ كفئاً له، فلو تزوجت قرشية من أولاد الخلفاء قرشيّاً ليس من أولادهم، كان للأولياء حقّ الاعتراض وقال الحنفية: العرب بعضهم أكفاء لبعض بالنص، ولا تكون العرب كفئاً لقريش ; لفضيلة قريش على سائر العرب ولذلك اختصت الإمامة بهم، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش». والموالي بعضهم أكفاء لبعض بالنص، ولا تكون الموالي أكفاءً للعرب، لفضل العرب على العجم، وموالي العرب أكفاء لموالي قريش، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «والموالي بعضهم أكفاء لبعض رجل برجل» ومفاخرة العجم بالإسلام لا بالنّسب، فمن له أبوان في الإسلام فصاعداً فهو من الأكفاء لمن له آباء فيه، ومن أسلم بنفسه أو له أب واحد في الإسلام لا يكون كفئاً لمن له أبوان في الإسلام ; لأنّ تمام النّسب بالأب والجدّ، ومن أسلم بنفسه لا يكون كفئاً لمن له أب واحد في الإسلام. وقال الشافعية: غير القرشيّ من العرب ليس كفء القرشية، لخبر: «قدّموا قريشاً ولا تقدموها» ولأنّ الله تعالى اصطفى قريشاً من كنانة، وليس غير الهاشميّ والمطلبيّ من قريش كفئاً للهاشمية أو المطلبية، لخبر: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم»، والمطلبيّ كفء الهاشمية وعكسه، لحديث: «إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد»، فهما متكافئان، ومحلّه إذا لم تكن شريفةً، أما الشريفة فلا يكافئها إلا شريف، والشرف مختصّ بأولاد الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما وعن أبويهما.. نبه على ذلك ابن ظهيرة، ومحلّه أيضاً في الحرة، فلو نكح هاشميّ أو مطلبيّ أمةً فأتت منه ببنت فهي مملوكة لمالك أمّها، فله تزويجها من رقيق ودنيء النّسب، لأنّ وصمة الرّقّ الثابت من غير شكّ ألغت اعتبار كلّ كمال معه، مع كون الحقّ في الكفاءة في النّسب لسيّدها لا لها على ما جزم به الشيخان. أما غير قريش من العرب فإنّ بعضهم أكفاء بعض.. نقله الرافعيّ عن جماعة، وقال في زيادة الروضة إنّه مقتضى كلام الأكثرين. وقالوا: الأصحّ اعتبار النّسب في العجم كالعرب قياساً عليهم، فالفرس أفضل من القبط، لما روي أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان الدّين عند الثّريا لذهب به رجل من فارس»، وبنو إسرائيل أفضل من القبط، ومقابل الأصحّ: أنّه لا يعتبر النّسب في العجم ; لأنّهم لا يعتنون بحفظ الأنساب ولا يدوّنونها بخلاف العرب، والاعتبار في النّسب بالأب، ولا يكافئ من أسلم أو أسلم أحد أجداده الأقربين أقدم منه في الإسلام، فمن أسلم بنفسه ليس كفء من لها أب أو أكثر في الإسلام، ومن له أبوان في الإسلام ليس كفء من لها ثلاثة آباء فيه. واختلفت الرّواية عن أحمد، فروي عنه أنّ غير قريش من العرب لا يكافئها، وغير بني هاشم لا يكافئهم، لحديث: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»، ولأنّ العرب فضّلت على الأمم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش أخصّ به من سائر العرب، وبنو هاشم أخصّ به من قريش، وكذلك قال عثمان وجبير بن مطعم: إنّ إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم علينا لمكانك الذي وضعك الله به منهم. والرّواية الثانية عن أحمد أنّ العرب بعضهم لبعض أكفاء، والعجم بعضهم لبعض أكفاء، لأنّ «النّبي صلى الله عليه وسلم زوج ابنتيه عثمان»، وزوج عليّ عمر ابنته أم كلثوم رضي الله تعالى عنهم. والكفاءة في النّسب غير معتبرة عند المالكية. ج - الحرّية: 9 - ذهب الحنفية والشافعية، وهو الصحيح عند الحنابلة، إلى أنّ الحرّية من خصال الكفاءة، فلا يكون القنّ أو المبعض أو المدبر أو المكاتب كفئاً للحرة ولو عتيقةً ; لأنّها تتعير به، إذ النقص والشين بالرّقّ فوق النقص والشين بدناءة النّسب ; ولأنّها تتضرر بنكاحه لأنّه ينفق نفقة المعسرين، ولا ينفق على ولده، وهو ممنوع من التصرّف في كسبه، غير مالك له، مشغول عن امرأته بحقوق سيّده، وملك السيّد رقبته يشبه ملك البهيمة. واستدلّوا بما روى عروة عن عائشة «أنّ بريرة أعتقت فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم»، ولو كان زوجها حرّاً لم يخيّرها، واختلف المالكية في كفاءة العبد للحرة أو عدمها في تأوّلين. فأجاز ابن القاسم نكاح العبد عربيةً، وقال عبد الباقي: إنّه الأحسن ورجح الدردير عدم كفاءة العبد للحرة، وقال الدّسوقيّ: إنّه المذهب. د - الحرفة: 10 - الحرفة ما يطلب به الرّزق من الصنائع وغيرها، والحرفة الدنيئة ما دلت ملابستها على انحطاط المروءة وسقوط النفس، كملابسة القاذورات. وقد ذهب الحنفية - في المفتى به وهو قول أبي يوسف - والشافعية والحنابلة - في الرّواية المعتمدة عن أحمد - إلى اعتبار الحرفة في الكفاءة في النّكاح، لقوله تعالى: {وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ}، أي في سببه، فبعضهم يصل إليه بعزّ وراحة، وبعضهم بذلّ ومشقة ; ولأنّ الناس يتفآخرون بشرف الحرف ويتعيرون بدناءتها. وعن أبي حنيفة وفي رواية عن أحمد: أنّ الحرفة غير معتبرة في الكفاءة في النّكاح ; لأنّه يمكن الانتقال والتحوّل عن الخسيسة إلى النّفيسة منها، فليست وصفاً لازماً. وروي نحو ذلك عن أبي يوسف، حيث قال: إنّها غير معتبرة إلا أن تكون فاحشةً.. كحرفة الحجام والكنّاس والدباغ، فلا يكون كلّ منهم كفء بنت العطار والصيرفيّ والجوهريّ. ووفق ما ذهب إليه جمهور الفقهاء لا يكون الرجل صاحب الصّناعة أو الحرفة الدنيئة أو الخسيسة كفء بنت صاحب الصّناعة أو الحرفة الرفيعة أو الشريفة.. لما سبق، ولما ذكره الحنابلة من أنّه نقص في عرف الناس أشبه نقص النّسب، ولما روي في حديث: «العرب بعضهم أكفاء لبعض» وفي آخره «إلا حائك أو حجام»، قيل لأحمد: كيف تأخذ به وأنت تضعّفه؟ قال: العمل عليه، يعني أنّه موافق لأهل العرف. وقال الحنفية: تثبت الكفاءة بين الحرفتين في جنس واحد، كالبزاز مع البزاز، والحائك مع الحائك، وتثبت عند اختلاف جنس الحرفة إذا كان يقارب بعضها بعضاً، كالبزاز مع الصائغ، والصائغ مع العطار، ولا تثبت فيما لا مقاربة بينهما، كالعطار مع البيطار، والبزاز مع الخراز. وقال الشافعية: الاعتبار بالعرف العامّ لبلد الزوجة لا لبلد العقد ; لأنّ المدار على تعييرها أو عدمه، وذلك يعرف بالنّسبة لحرف بلدها، أي التي هي بها حالة العقد. قال الرمليّ: حرفة الآباء - كحرفة الزوج - معتبرة في الكفاءة، والأوجه أنّ كل ذي حرفة فيها مباشرة نجاسة ليس كفء الذي حرفته لا مباشرة فيها للنّجاسة، وأنّ بقية الحرف التي لم يذكروا فيها تفاضلاً متساوية إلا إن اطرد العرف بتفاوتها.. وقال: من له حرفتان: دنية ورفيعة اعتبر ما اشتهر به، وإلا غلبت الدنية، بل لو قيل بتغليبها مطلقاً لم يبعد ; لأنّه لا يخلو عن تعييره بها. وأضاف القليوبيّ: لو ترك حرفةً لأرفع منها أو عكسه، اعتبر قطع نسبته عن الأولى، وليس تعاطي الحرفة الدنيئة لتواضع أو كسر نفس أو لنفع المسلمين بغير أجرة مضرّاً في الكفاءة والعلم - بشرط عدم الفسق - وكذلك القضاء أرفع الحرف كلّها، فيكافئان سائر الحرف، فلو جاءت امرأة لا يعرف نسبها إلى قاض ليزوّجها، لا يزوّجها إلا من ابن عالم أو قاض دون غيرهما ; لاحتمال شرفها بالنّسب إلى أحدهما. والمراد ببنت العالم والقاضي في ظاهر كلامهم - كما قال الرمليّ - من في آبائها المنسوبة إليهم أحدهما وإن علا ; لأنّ ذلك مما تفتخر به، وبحث الأذرعيّ أنّ العلم مع الفسق لا أثر له، إذ لا فخر له حينئذ في العرف فضلاً عن الشرع، وصرح بذلك في القضاء فقال: إن كان القاضي أهلاً فعالم وزيادة، أو غير أهل ففي النظر إليه نظر. والجاهل - كما أضاف الرمليّ - لا يكون كفء عالمة، لأنّ العلم إذا اعتبر في آبائها فلأن يعتبر فيها بالأولى، إذ أقلّ مراتب العلم أن يكون كالحرفة، وصاحب الحرفة الدنيئة لا يكافئ صاحب الشريفة. ولا يعتبر المالكية الحرفة من خصال الكفاءة في النّكاح ; إذ الكفاءة عندهم في الدّين والحال، وأما الدّين فهو المماثلة أو المقاربة في التديّن بشرائع الإسلام لا في مجرد أصل الإسلام. وأما الحال فهو المماثلة أو المقاربة في السلامة من العيوب الموجبة للخيار، لا الحسب والنّسب. هـ - اليسار: 11 - اختلف الفقهاء في اعتبار اليسار - ويعبّر عنه الحنفية بالمال - من خصال الكفاءة في النّكاح أو عدم اعتباره: فذهب الحنفية، والحنابلة - في الرّواية المعتمدة - وهو مقابل الأصحّ عند الشافعية، إلى اعتباره، فلا يكون الفقير كفء الغنية، لأنّ التفاخر بالمال أكثر من التفاخر بغيره عادةً، ولأنّ للنّكاح تعلّقاً لازماً بالمهر والنفقة، ولا تعلّق له بالنّسب والحرّية، فلما اعتبرت الكفاءة ثمة فلأن تعتبر هاهنا أولى ; ولأنّ على الموسرة ضرراً في إعسار زوجها لإخلاله بنفقتها ومؤنة أولادها، ولهذا ملكت الفسخ بإخلاله بنفقتها ومؤنة أولادها عند بعض الفقهاء، ولأنّ ذلك معدود نقصا في عرف الناس، ويتفاضلون فيه كتفاضلهم في النّسب وأبلغ، فكان من شروط الكفاءة كالنّسب. والمعتبر في اليسار القدرة على مهر مثل الزوجة والنفقة، ولا تعتبر الزّيادة على ذلك، حتى إنّ الزوج إذا كان قادراً على مهر مثلها ونفقتها يكون كفئاً لها وإن كان لا يساويها في المال ; لأنّ القدر المعتبر من المال في اليسار هو الذي يحتاج إليه، إذ إنّ من لا يملك مهراً ولا نفقة لا يكون كفئاً لأنّ المهر بدل البضع فلا بد من إيفائه، وبالنفقة قوام الازدواج ودوامه، فلا بد من القدرة عليهما، ولأنّ من لا قدرة له على المهر والنفقة يستحقر ويستهان به في العادة، كمن له نسب دنيء، فتختلّ به المصالح كما تختلّ عند دناءة النّسب. والمراد بالمهر قدر ما تعارفوا تعجيله ; لأنّ ما وراءه مؤجل عرفاً، قال البابرتيّ: ليس بمطالب به فلا يسقط الكفاءة. وروي عن أبي يوسف أنّه اعتبر القدرة على النفقة دون المهر ; لأنّه تجري المساهلة في المهر ويعدّ المرء قادراً عليه بيسار أبيه. وروي عن أبي حنيفة ومحمد أنّ تساوي الزوج والمرأة في الغنى شرط تحقّق الكفاءة، حتى إنّ الفائقة اليسار لا يكافئها القادر على المهر والنفقة ; لأنّ الناس يتفآخرون بالغنى ويتعيرون بالفقر. وقال ابن عقيل من الحنابلة: قياس المذهب أن لا يتقدر المال بمقدار ملك النّصاب أو غيره، بل إن كان حال أبيها ممن لا يزري عليها بتزويجها بالزوج، بأن يكون موازياً أو مساوياً له في المال الذي يقدر به على نفقة الموسرين، بحيث لا تتغير عادتها عند أبيها في بيته، فذلك المعتبر. والقائلون من الشافعية في مقابل الأصحّ اختلفوا في مقدار اليسار المعتبر في الكفاءة، فقيل: يعتبر بقدر المهر والنفقة، فيكون بهما كفئاً لصاحبة الألوف، والأصحّ أنّه لا يكفي ذلك ; لأنّ الناس أصناف: غنيّ وفقير ومتوسّط، وكلّ صنف أكفاء وإن اختلفت المراتب. والأصحّ عند الشافعية أنّ اليسار لا يعتبر في الكفاءة ; لأنّ المال غاد ورائح ولا يفتخر به أهل المروءات والبصائر، وروي عن أحمد عدم اعتبار اليسار ; لأنّ الفقر شرف في الدّين، والمعتبر في اليسار ما يقدر به على النفقة والمهر. و - السلامة من العيوب: 12 - ذهب المالكية والشافعية وابن عقيل وغيره من الحنابلة، إلى أنّ السلامة من العيوب المثبتة لخيار فسخ النّكاح من خصال الكفاءة في النّكاح. وقال ابن راشد من المالكية: المراد أن يساويها في الصّحة، أي يكون سالماً من العيوب الفاحشة، وهذا هو الذي يؤخذ من كلام ابن بشير وابن شاس وغيرهما من الأصحاب. وفصل الشافعية فقالوا: من الخصال المعتبرة في الكفاءة السلامة من العيوب المثبتة للخيار، فمن به بعضها كالجنون أو الجذام أو البرص لا يكون كفئاً لسليمة عنها ; لأنّ النفس تعاف صحبة من به ذلك، ويختلّ به مقصود النّكاح، ولو كان بها عيب أيضاً، فإن اختلف العيبان فلا كفاءة، وإن اختلفا وما به أكثر فكذلك، وكذا إن تساويا أو كان ما بها أكثر في الأصحّ ; لأنّ الإنسان يعاف من غيره ما لا يعاف من نفسه، وكذا لو كان مجبوباً وهي رتقاء أو قرناء. واستثنى البغويّ والخوارزميّ العنّة لعدم تحقّقها، فلا نظر إليها في الكفاءة وجرى على ذلك الإسنويّ وابن المقري، قال الشيخان وفي تعليق الشيخ أبي حامد وغيره التسوية بينها وبين غيرها، وإطلاق الجمهور يوافقه، قال الشّربينيّ الخطيب: وهذا هو المعتمد، ووجّه بأنّ الأحكام تبنى على الظاهر ولا تتوقف على التحقّق. وألحق الرّويانيّ بالعيوب الخمسة العيوب المنفّرة، كالعمى والقطع وتشوّه الصّورة، وقال: هي تمنع الكفاءة عندي، وبه قال بعض الأصحاب، وهذا خلاف المذهب. واشتراط السلامة من هذه العيوب هو على عمومه بالنّسبة إلى المرأة، أما بالنّسبة إلى الوليّ، فيعتبر في حقّه الجنون والجذام والبرص، لا الجبّ والعنّة. قال الزركشيّ والهرويّ: والتنقّي من العيوب إنّما يعتبر في الزوجين خاصةً دون آبائهما، فابن الأبرص كفء لمن أبوها سليم... قال الشّربينيّ الخطيب: والأوجه والأقرب أنّه ليس كفئاً لها لأنّها تعير به. وقال القاضي: يؤثّر في الزوج كلّ ما يكسر سورة التوقان. وقال المقدسيّ والرحيبانيّ من الحنابلة: ويتجه أنّه مما ينبغي اشتراطه في الكفاءة فقد العيوب المثبتة لخيار الفسخ، ولم يذكره أصحابنا، لكن عند ابن عقيل وأبي محمد أنّه شرط، قال الشيخ تقيّ الدّين: وقد أومأ إليه أحمد: أنّها لا تزوج بمعيب وإن أرادت، فعلى هذا السلامة من العيوب من جملة خصال الكفاءة. وقال الحنفية وأكثر الحنابلة: لا تعتبر في الكفاءة السلامة من العيوب، لكنّ ابن عابدين نقل عن الفتاوى الحامدية، أنّ غير الأب والجدّ من الأولياء لو زوج الصغيرة من عنّين معروف لم يجز، لأنّ القدرة على الجماع شرط الكفاءة كالقدرة على المهر والنفقة، بل أولى، ونقل عن البحر أنّ الكبيرة لو زوجها الوكيل غنيّاً مجبوباً جاز، وإن كان لها التفريق بعد.
13 - نص الشافعية على أنّ بعض خصال الكفاءة لا يقابل ببعض في الأصحّ، فلا تجبر نقيصة بفضيلة، أي لا تزوج عفيفة رقيقة بفاسق حرّ، ولا سليمة من العيوب دنيئة بمعيب نسيب.. لما بالزوج في الصّور المذكورة من النقص المانع من الكفاءة، ولا ينجبر بما فيه من الفضيلة الزائدة عليها. ومقابل الأصحّ عندهم أنّ دناءة نسب الزوج تنجبر بعفته الظاهرة، وأنّ الأمة العربية يقابلها الحرّ العجميّ. وفصل الإمام فقال: السلامة من العيوب لا تقابل بسائر فضائل الزوج، وكذا الحرّية، وكذا النّسب، وفي انجبار دناءة نسبه بعفته الظاهرة وجهان: أصحّهما المنع، قال: والتنقّي من الحرف الدنية يقابله الصلاح وفاقاً، والصلاح إن اعتبرناه يقابل بكلّ خصلة، والأمة العربية بالحرّ العجميّ على هذا الخلاف. وذكر ابن عابدين: أنّه لو كان الزوج ذا جاه كالسّلطان والعالم ولم يملك إلا النفقة، قيل: يكون كفئاً لأنّ الخلل ينجبر به، ومن ثم قالوا: الفقيه العجميّ كفء للعربيّ الجاهل، وقال: والذي يظهر لي أنّ شرف النّسب أو العلم يجبر نقص الحرفة، بل يفوق سائر الحرف.
14 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّفات التي لا تعتبر في خصال الكفاءة التي سبق بيانها لا تؤثّر في الكفاءة، كالكرم وعكسه، واختلاف البلد، ونحو ذلك، قالوا: لأنّه ليس بشيء، وقد خالف بعضهم في اعتبار ذلك كما يلي: أ - كفاءة الدميم للجميلة: 15 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الجمال ليس من الخصال المعتبرة في الكفاءة للنّكاح، لكنّ الرّوياني من الشافعية اعتبره من تلك الخصال، ومع موافقة الحنفية لجمهور الفقهاء فإنّهم قالوا: لكنّ النصيحة أن يراعي الأولياء المجأنسة في الحسن والجمال. ب - كفاءة ولد الزّنا لذات النّسب: 16 - نصَّ الحنابلة على هذه المسألة واختلف قولهم فيها فنقل البهوتيّ أنّه قد قيل إنّه كفء لذات نسب، وقال ابن قدامة: يحتمل ألا يكون كفئاً لذات نسب، ونقل البهوتيّ وابن قدامة عن أحمد أنّه ذكر له أنّ ولد الزّنا ينكح وينكح إليه فكأنه لم يحب ذلك ; لأنّ المرأة تعير به هي ووليّها، ويتعدى ذلك إلى ولدها، وأما كونه ليس بكفء لعربية فلا إشكال فيه، لأنّه أدنى حالاً من الموالي. ج - كفاءة الجاهل للعالمة: 17 - ذكر الشافعية هذه المسألة، واختلفوا فيها، فصحح في زيادة الروضة كون الرجل الجاهل كفئاً للعالمة، ورجح الرّويانيّ أنّه غير كفء لها، واختاره السّبكيّ، واحتج بأنّهم يعتبرون العلم في الأب، فاعتباره في المرأة نفسها أولى، قال الشّربينيّ الخطيب بعد أن نقل ما سبق: وهذا متعين. د - كفاءة القصير لغير القصيرة: 18 - ذهب الشافعية إلى أنّ الطّول أو القصر لا يعتبر أيّ منهما في الكفاءة للنّكاح ; لأنّه ليس بشيء، وهو فتح لباب واسع، وقال الأذرعيّ: فيما إذا أفرط القصر في الرجل نظر، وينبغي ألا يجوز للأب تزويج ابنته بمن هو كذلك، فإنّه ممن تتعير به المرأة. هـ - كفاءة الشيخ للشابة: 19 - ذهب الشافعية إلى أنّ الشيخ كفء للشابة، لكنّ الرّوياني ذكر أنّ الشيخ لا يكون كفئاً للشابة على الأصحّ، قال النّوويّ: الصحيح خلاف ما قاله الرّويانيّ، وقال الرمليّ: هو ضعيف لكن ينبغي مراعاته. و - كفاءة المحجور عليه بسفه للرشيدة: 20 - ذهب الشافعية إلى أنّ المحجور عليه بسفه كفء للرشيدة، وقال الزركشيّ: فيه نظر ; لأنّها تتعير غالباً بالحجر على الزوج، وقال الأنصاريّ: الأوجه أنّه غير كفء.
21 - إذا تخلفت الكفاءة عند من يشترطونها لصحة النّكاح فإنّه يكون باطلاً أو فاسداً، أما من لا يعتبرونها لصحة النّكاح، ويرونها حقّاً للمرأة والأولياء فإنّ تخلّف الكفاءة لا يبطل النّكاح عندهم في الجملة، بل يجعله عرضةً للفسخ. وللفقهاء وراء ذلك تفصيل: قال الحنفية - على ظاهر الرّواية - إذا تزوجت المرأة غير كفء فللوليّ أن يفرّق بينهما دفعاً للعار ما لم يجئ منه دلالة الرّضا، والتفريق إلى القاضي ; لأنّه مجتهد فيه، وكلّ من الخصمين يتشبث بدليل، فلا ينقطع النّزاع إلا بفصل القاضي، وما لم يفرّق فأحكام النّكاح ثابتة، يتوارثان به إذا مات أحدهما قبل القضاء، ولا يكون الفسخ طلاقاً ; لأنّ الطلاق تصرّف في النّكاح وهذا فسخ لأصل النّكاح ; ولأنّ الفسخ إنّما يكون طلاقاً إذا فعله القاضي نيابةً عن الزوج، وهذا ليس كذلك، ولهذا لا يجب لها شيء من المهر إن كان قبل الدّخول، وإن دخل بها فلها المسمى، وعليها العدة ولها نفقة العدة للدّخول في عقد صحيح، والخلوة الصحيحة عندهم في هذا كالدّخول. وقالوا: إن قبض الوليّ المهر أو جهز به أو طالب بالنفقة فقد رضي، لأنّ ذلك تقرير للنّكاح وأنّه يكون رضاً، كما إذا زوجها فمكنت الزوج من نفسها، وإن سكت لا يكون قد رضي وإن طالت المدة، ما لم تلد، فليس له حينئذ التفريق ; لأنّ السّكوت عن الحقّ المتأكّد لا يبطله، لاحتمال تأخّره إلى وقت يختار فيه الخصومة، وعن شيخ الإسلام أنّ له التفريق بعد الولادة أيضاً. وإن رضي أحد الأولياء فليس لغيره ممن هو في درجته أو أسفل منه الاعتراض، لأنّ حق الأولياء لا يتجزأ، وهو دفع العار، فجعل كلّ واحد منهم كالمنفرد، لأنّه صح الإسقاط في حقّه، فيسقط في حقّ غيره ضرورة عدم التجزّؤ، كالعفو عن القصاص، بخلاف ما إذا رضيت ; لأنّ حقها غير حقّهم، إذ أنّ حقها صيانة نفسها عن ذلّ الاستفراش، وحقهم دفع العار، فسقوط أحدهما لا يقتضي سقوط الآخر، وقال أبو يوسف: للباقين حقّ الاعتراض ; لأنّه حقّ ثبت لجماعتهم، فإذا رضي أحدهم فقد أسقط حقه وبقي حقّ الآخرين، وإن كان الوليّ المعترض أقرب من الوليّ الذي رضي فله حقّ الاعتراض. وروى الحسن عن أبي حنيفة - وروايته هي المختارة للفتوى عند الحنفية - أنّ المرأة إذا تزوجت بغير كفء لم يجز ولا يصحّ العقد أصلاً، قال السرخسيّ: وهو أحوط، فليس كلّ وليّ يحسن المرافعة إلى القاضي، ولا كلّ قاض يعدل، فكان الأحوط سد هذا الباب، وقال في الخانية: هذا أصحّ وأحوط. وقد نقل الكمال بن الهمام عن أبي الليث: أنّ للمرأة التي زوجت نفسها من غير كفء أن تمتنع عن تمكينه من وطئها ; لأنّ من حجة المرأة أن تقول: إنّما تزوجتك على رجاء أن يجيز الوليّ، وعسى أن لا يرضى، فيفرّق. وقال المالكية - كما حكى البنانيّ - إذا تزوجت المرأة من غير كفء في الدّين، فيتحصل في العقد ثلاثة أقوال: أحدها: لزوم فسخه لفساده، وهو ظاهر اللخميّ وابن بشير وغيرهما. الثاني: أنّه نكاح صحيح، وشهره الفاكهانيّ. الثالث: لإِصبغ: إن كان لا يؤمن عليها منه رده الإمام وإن رضيت به. وقال البنانيّ: وظاهر كلام الحطاب أنّ القول الأول هو الراجح. ونقل الحطاب عن ابن فرحون أنّه قال في تبصرته: من الطلاق الذي يوقعه الحاكم بغير إذن المرأة وإن كرهت إيقاعه نكاحها الفاسق، وعقب الحطاب بقوله: سواء كان فاسقاً بالجوارح أو بالاعتقاد، وظاهر كلامهم أنّه يفسخ مطلقاً بعد الدّخول وقبله، ثم قال: وأما الحال - أي تخلّف الكفاءة بسبب الحال وليس بسبب الدّين - فلا إشكال أنّ للمرأة ووليّها إسقاطه. وقال الشافعية: لو زوج الوليّ المنفرد المرأة غير كفء برضاها، أو زوجها بعض الأولياء المستوين غير كفء برضاها ورضا الباقين ممن في درجته، صح التزويج ; لأنّ الكفاءة حقّها وحقّ الأولياء - كما سبق - فإن رضوا بإسقاطها فلا اعتراض عليهم. ولو زوجها الوليّ الأقرب غير كفء برضاها فليس للأبعد الاعتراض ; إذ لا حق له الآن في التزويج. ولو زوجها أحد الأولياء المستوين في الدرجة بغير الكفء برضاها دون رضاء باقي المستوين لم يصح التزويج به ; لأنّ لهم حقّاً في الكفاءة، فاعتبر رضاهم - ويستثنى ما لو زوجها بمن به جَبّ أو عنَّة برضاها، فإنّه يصحّ - وفي قول: يصحّ ولهم الفسخ ; لأنّ النقصان يقتضي الخيار لا البطلان، كما لو اشترى معيباً. ويجري القولان في تزويج الأب أو الجدّ بكراً صغيرةً أو بالغةً بغير رضاها من غير كفء، وفي الأظهر: التزويج باطل ; لأنّه على خلاف الغبطة ; لأنّ ولي المال لا يصحّ تصرّفه بغير الغبطة، فوليّ البضع أولى، وفي الآخر: يصحّ، وللبالغة الخيار في الحال، وللصغيرة إذا بلغت، ويجري الخلاف في تزويج غير المجبر إذا أذنت في التزويج مطلقاً. ولو طلبت من لا ولي خاصّاً لها أن يزوّجها السّلطان أو نائبه بغير كفء ففعل لم يصح تزويجه في الأصحّ ; لأنّه نائب المسلمين ولهم حظّ في الكفاءة، والثاني: يصحّ كالوليّ الخاصّ، وصححه البلقينيّ. ولو كان للمرأة وليّ خاصّ، ولكن زوجها السّلطان لغيبته أو عضله أو إحرامه، فلا تزوج إلا من كفء قطعاً ; لأنّه نائب عنه في التصرّف، فلا يصحّ التزويج من غير كفء مع عدم إذنه. ولو كان الوليّ حاضراً وفيه مانع من فسق ونحوه وليس بعده إلا السّلطان، فزوج السّلطان من غير كفء برضاها فظاهر إطلاقهم طرد الوجهين.
22 - وإذا ادعت المرأة كفاءة الخاطب وأنكرها الوليّ رفع الأمر إلى القاضي، فإن ثبتت كفاءته ألزمه تزويجها، فإن امتنع زوجها القاضي به، وإن لم تثبت كفاءته فلا يلزمه تزويجها به، نص على ذلك ابن المقري والأنصاريّ من الشافعية.
23 - نص بعض الشافعية على أنّه إذا كانت المرأة بحيث لا يوجد لها كفء أصلاً جاز للوليّ تزويجها - للضرورة - بغير الكفء. قال الحنابلة: إن تزوجت المرأة غير كفء، وكانت الكفاءة معدومةً حال العقد، فرضيت المرأة والأولياء كلّهم صح النّكاح على القول بأنّ الكفاءة ليست شرطاً في صحة النّكاح وإن لم يرض بعضهم ففيه روايتان عن أحمد: إحداهما: أنّه باطل، لأنّ الكفاءة حقّ لجميعهم، والعاقد متصرّف فيها بغير رضاهم، فلم يصح، كتصرّف الفضوليّ. والثانية: أنّه صحيح، بدليل «أنّ المرأة التي رفعت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ أباها زوجها من غير كفئها»، خيرها النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يبطل النّكاح من أصله ; ولأنّ العقد وقع بالإذن، والنقص الموجود فيه لا يمنع صحته، وإنّما يثبت خيار الفسخ، والحقّ في الخيار لمن لم يرض بالنّكاح من المرأة والأولياء كلّهم، حتى من يحدث من عصبتها بعد العقد ; لأنّ العار في تزويج من ليس بكفء عليهم أجمعين، وهذا الحقّ في الفسخ على الفور وعلى التراخي لأنّه خيار لنقص في المعقود عليه، فأشبه خيار العيب، فلا يسقط الخيار إلا بإسقاط العصبة الأولياء بقول مثلَ: أسقطنا الكفاءة، أو رضينا به غير كفء، ونحوه، وأما سكوتهم فليس رضاً، وخيار الزوجة يسقط بما يدلّ على رضاها من قول أو فعل، كأن مكنته من نفسها عالمةً أنّه غير كفء. ويملك الحق في خيار الفسخ لفقد الكفاءة الأبعد من الأولياء مع رضا الأقرب منهم به، ومع رضا الزوجة ; دفعاً لما يلحقه من العار، فلو زوج الأب بنته بغير كفء برضاها، فللإخوة الفسخ ; لأنّ العار في تزويج من ليس بكفء عليهم أجمعين.
24 - ذهب الحنفية إلى أنّ الولي لو زوج المرأة بإذنها من غير كفء فطلقها، ثم زوجت نفسها منه ثانياً، كان لذلك الوليّ التفريق، ولا يكون الرّضا بالأول رضاً بالثاني ; لأنّ الإنسان لا يبعد رجوعه عن خلة دنيئة، وكذا لو زوجها هو من غير كفء فطلقها فتزوجت آخر غير كفء، ولو تزوجته ثانياً في العدة ففرق بينهما لزمه مهر ثان، واستأنفت العدة، وإن كان قبل الدّخول في الثاني. وقال المالكية: ليس لوليّ رضي بتزويج وليته غير كفء وزوجه إياها، فطلقها طلاقاً بائناً أو رجعيّاً، امتناع من تزويجها له ثانياً - إن رضيت به - بلا عيب حادث مقتض للامتناع، لسقوط حقّه في الكفاءة، حيث رضي به أولاً، فإن امتنع عد عاضلاً، وله الامتناع بعيب حادث. وقال الشافعية: لو رضي الأولياء بتزويجها بغير كفء، ثم خالعها الزوج، ثم زوجها أحد الأولياء به برضاها دون رضا الباقين فإنّه يصحّ، كما هو قضية كلام الروضة، وجزم به ابن المقري ; لرضاهم به أولاً، وإن خالف في ذلك صاحب الأنوار، وفي معنى المختلع: الفاسخ والمطلّق رجعيّاً إذا أعاد زوجته بعد البينونة، والمطلّق قبل الدّخول.
25 - نص المالكية على مسألة تكلّم أمّ الزوجة في ردّ تزويج الأب ابنتهما الموسرة المرغوب فيها من رجل فقير، ففي المدونة: أتت امرأة مطلقة إلى مالك فقالت له: إنّ لي ابنةً في حجري موسرةً مرغوباً فيها، فأراد أبوها أن يزوّجها من ابن أخ له فقير، وفي المهمات: معدم لا مال له، أفترى لي في ذلك تكلّماً؟ قال: نعم، إنّي لأرى لك تكلّماً، ورويت المدونة أيضاً بالنّفي، أي نعم، لا أرى لك تكلّماً. قال ابن القاسم: لا أرى لها تكلّماً، وأراه ماضياً، إلا لضرر بيّن فلها التكلّم. قال خليل والأبيّ وغيرهما: هل قول ابن القاسم وفاق لقول مالك بحمل رواية الإثبات على ثبوت الضرر، ورواية النّفي على عدمه، أو خلاف بحمل كلام مالك على ظاهره، وهو إطلاق الكلام على رواية الإثبات، وإطلاق عدمه على رواية النّفي؟ فيه تأويلان: التوفيق لأبي عمران وابن محرز عن بعض المتأخّرين، والخلاف لابن حبيب.
1 - الكفالة لغةً: من كَفَل المالَ وبالمال: ضمنه وكَفَل بالرجل يكفُل ويكفِل كَفْلاً وكفولاً، وكَفَالَةً، وكَفُلَ وكَفِل وتكفّل به كلّه: ضمنه، وأكفله إياه وكفّله: ضمّنه، وكَفَلْت عنه المال لغريمه وتكفّل بدينه تكفّلاً. وفي التهذيب: وأما الكافل فهو الذي كفل إنساناً يعوله وينفق عليه، وفي الحديث: «الربيب كافل»، وهو زوج أمّ اليتيم، كانه كفل نفقة اليتيم، والمكافل: المعاقد المحالف، والكفيل من هذا أخذ. وأما الكفالة في الاصطلاح: فقد اختلف الفقهاء في تعريف الكفالة تبعاً لاختلافهم فيما يترتب عليها من أثر. فعرفها جمهور الحنفية بأنّها: ضمّ ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة بنفس أو دين أو عين. وعرفها بعضهم بأنّها: ضمّ ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في الدين. قال في الهداية: والأول هو الأصحّ. ويرى المالكية والشافعية في المشهور والحنابلة أنّ الكفالة هي: أن يلتزم الرشيد بإحضار بدن من يلزم حضوره في مجلس الحكم. فالحنفية يطلقون الكفالة على كفالة المال والوجه، والمالكية والشافعية يقسمون الضمان إلى ضمان المال وضمان الوجه، ويطلق الشافعية الكفالة على ضمان الأعيان البدنية. وأما عند الحنابلة: فالضمان يكون التزام حقّ في ذمة شخص آخر، والكفالة التزام بحضور بدنه إلى مجلس الحكم. ويسمى الملتزم بالحقّ ضآمناً وضميناً وحميلاً وزعيماً وكافلاً وكفيلاً وصبيراً وقبيلاً وغريماً، غير أنّ العرف جار بأنّ الضمين يستعمل في الأموال، والحميل في الدّيات، والزعيم في الأموال العظام، والكفيل في النّفوس، والقبيل والصبير في الجمع.
أ - الإبراء: 2 - من معاني الإبراء في اللّغة: التنزيه والتخليص والمباعدة عن الشيء. وفي الاصطلاح: هو إسقاط الشخص حقّاً له في ذمة آخر أو قبله. فالإبراء عكس الكفالة لأنّه يفيد خلو الذّمة، وهي تفيد انشغالها (ر: إبراء ف /1). ب - الحَمالة: 3 - الحمالة بالفتح: ما يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة. ووجه الصّلة بين الحمالة والكفالة: أنّ العرف خص الحمالة بالدّية والغرم لإصلاح ذات البين، وأطلق الكفالة على ضمان الدين والعين والنفس. ج - الحوالة: 4 - الحوالة في اللّغة: التحوّل والانتقال. وفي الاصطلاح: نقل الدين من ذمة إلى ذمة أخرى. والفرق بين الحوالة والكفالة أو الضمان: أنّ الحوالة نقل للدين من ذمة إلى ذمة أخرى، أما الكفالة أو الضمان فهو ضمّ ذمة إلى ذمة في الالتزام بالحقّ، فهما متباينان ; لأنّ بالحوالة تبرأ ذمة المحيل، وفي الكفالة لا تبرأ ذمة المكفول. د - القَبَالة: 5 - القبالة في الأصل مصدر قبل به إذا كفل، وقبل إذا صار كفيلاً، وتقبل له: تكفل، والقبيل: الكفيل. وكثير من الفقهاء يستعمل لفظ القبالة بمعنى الكفالة ووزنه، ولكنّ بعضهم خص الكفالة بالنفس أو العين، وعمم القبالة في المال والدّية والنفس والعين. والقبالة عند بعض الفقهاء أعمّ من الكفالة.
6 - الكفالة مشروعة بالكتاب والسّنّة والإجماع. فمن الكتاب قوله تعالى: {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ}، أي كفيل: ضامن وقوله تعالى: {سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ}، أي: كفيل. ومن السّنّة: قوله صلى الله عليه وسلم: «العارية مؤداة، والزعيم غارم والدين مقضيّ»، قال الخطابيّ وغيره: الزعيم الكفيل، والزعامة الكفالة، وما روى أبو قتادة «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل ليصلّي عليه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: صلّوا على صاحبكم فإنّ عليه ديناً، قال أبو قتادة: هو علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالوفاء؟ قال: بالوفاء، فصلى عليه». وقد نقل كثير من الفقهاء الإجماع على جواز الكفالة - وإن اختلفوا في بعض الفروع - لحاجة الناس إليها ودفع الضرر عن المدين، قال في الاختيار: «بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم والناس يتكفلون فأقرهم عليه»، وعليه الناس من لدن المصدر الأول إلى يومنا هذا من غير نكير. ولهذه الأدلة رأى بعض الفقهاء أنّ الضمانالشامل للكفالة مندوب لقادر واثق بنفسه أمن غائلته.
أركان الكفالة: الصّيغة، والكفيل، والمكفول له، والمكفول عنه، والمكفول به. الرّكن الأول - صيغة الكفالة: 7 - ذهب المالكية والحنابلة، وهو الأصحّ عند الشافعية، وأبو يوسف إلى أنّ صيغة الكفالة تتمّ بإيجاب الكفيل وحده، ولا تتوقف على قبول المكفول له ; لأنّ الكفالة مجرد التزام من الكفيل بأداء الدين لا معاوضة فيه، بل هو تبرّع ينشأ بعبارته وحده، فيكفي فيه إيجاب الكفيل. وفي قول ثان عند الشافعية يشترط الرّضا ثم القبول، والثالث يشترط الرّضا دون القبول لفظاً. وذهب أبو حنيفة ومحمد، وهو رأي عند الشافعية إلى أنّ صيغة الكفالة تتركب من إيجاب يصدر من الكفيل، وقبول يصدر عن المكفول له ; لأنّ الكفالة عقد يملك به المكفول له حق مطالبة الكفيل أو حقّاً ثبت في ذمته فوجب قبوله، ويترتب على ذلك أنّ الكفالة لا تتمّ بعبارة الكفيل وحده، سواء كانت الكفالة بالنفس أو بالمال، بل لا بد من قبول المكفول له. وإيجاب الكفيل يتحقق بكلّ لفظ يفهم منه التعهّد والتزام والضمان، صراحةً أو ضمناً، كما يتحقق بكلّ تعبير عن الإرادة يؤدّي هذا المعنى. 8 - قد تكون الكفالة منجزةً أو معلقةً أو مضافةً إلى زمن مستقبل وقد توصف بأنّها مطلقة أو مؤقتة أو مقترنة بشرط، وتفصيل ذلك فيما يلي: أ - الكفالة المنجزة: 9 - وهي التي تكون صيغتها خاليةً من التعليق بشرط أو الإضافة لأجل، فمعنى التنجيز: أن تترتب آثار الكفالة في الحال بمجرد وجود الصّيغة مستوفيةً شروطها، فإذا قال شخص لآخر: أنا كفيل بدينك على فلان وقبل الدائن الكفالة - على رأي من يوجب لتمام الصّيغة قبول الدائن - فإنّ الكفيل يصير مطالباً بأداء الدين في الحال إذا كان الدين حالاً. أما إذا كان الدين مؤجلاً فيثبت الدين أو المطالبة به في ذمة الكفيل بصفته من الحلول والتأجيل متى كانت صيغة الكفالة مطلقةً غير مقترنة بشرط يغيّر من وصف الدين. ويرى الحنابلة أنّ الكفالة إذا أطلقت انعقدت حالةً، لأنّ كل عقد يدخله الحلول فإنّه يحمل عليه عند إطلاقه، كالثمن في البيع. ب - الكفالة المعلقة: 10 - وهي التي يعلق وجودها على وجود شيء آخر، كما إذا قال شخص للمشتري: أنا كفيل لك بالثمن إذا استحق المبيع، فإذا كان الشيء الذي علّقت به الكفالة موجوداً وقت التعليق، فإنّ الكفالة تنعقد منجزةً، وذلك كما لو قال الكفيل للدائن: إذا أفلس فلان فأنا كفيل لك بهذا الدين، ثم تبين أنّ فلاناً هذا كان قد أفلس فعلاً وقت إنشاء الكفالة. 11 - وللفقهاء في حكم الكفالة المعلقة خلاف يمكن إيجازه فيما يلي: ذهب الحنفية إلى صحة الكفالة المعلقة على شرط ملائم، وهو الشرط الذي يكون سبباً لوجوب الحقّ، كقول الكفيل للمشتري: إذا استحق المبيع فأنا ضامن الثمن، أو الشرط الذي يكون سبباً لإمكان الاستيفاء، كقول الكفيل للدائن: إذا قدم فلان - أي المكفول عنه - فأنا كفيل بدينك عليه، أو الشرط الذي يكون سبباً لتعذّر الاستيفاء، كقول الكفيل للدائن: إذا غاب فلان - المدين - عن البلد فأنا كفيل بالدين. وذهبوا كذلك إلى صحة الكفالة المعلقة بشرط جرى به العرف، كما لو قال الكفيل: إن لم يؤدّ فلان ما لك عليه من دين إلى ستة أشهر فأنا له ضامن، لأنّه علق الكفالة بالمال بشرط متعارف فصح. فأما إذا علّقت الكفالة على شرط غير ملائم، كقوله: إن هبت الرّيح أو إن نزل المطر أو إن دخلت الدار فأنا كفيل، فلا تصحّ الكفالة ; لأنّ تعليق الكفالة على شرط غير ملائم لا يظهر فيه غرض صحيح، وذهب بعض فقهاء المذهب إلى أنّ الكفالة تصحّ إذا ما علّقت على شرط غير ملائم، ويلغو التعليق. ويبدو مما ذكره المالكية من فروع: أنّ الكفالة تكون صحيحةً إذا علّقت على الشّروط الملائمة، ولا تكون صحيحةً إذا علّقت على شرط غير ملائم. أما الشافعية فالأصحّ عندهم عدم جواز تعليق الضمان والكفالة لأنّ كلّاً من الضمان والكفالة عقد كالبيع، وهو لا يجوز تعليقه بالشرط. ومقابل الأصحّ عندهم: جواز تعليق الضمان والكفالة، لأنّ القبول لا يشترط فيهما، فجاز تعليقهما كالطلاق، والقول الثالث: يمتنع تعليق الضمان دون الكفالة ; لأنّ الكفالة مبنية على الحاجة. وعند الحنابلة روايتان: تذهب أولاهما إلى بطلان الكفالة مع التعليق، وهو ما اختاره القاضي ; لأنّ في التعليق خطراً فلم يجز تعليق الضمان عليه، والكفالة تثبت حقّاً لآدميّ معين فلم يجز تعليق ثبوته على شرط. وتذهب الرّواية الأخرى إلى صحة تعليق الكفالة مطلقاً، لأنّ تعليق الكفالة والضمان على شرط صحيح كضمان العهدة، وقد مال إلى هذه الرّواية: الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب، لأنّه أضاف الضمانإلى سبب الوجود فيجب أن يصح كضمان الدرك. ج - الكفالة المضافة: 12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز إضافة الكفالة بالمال إلى أجل مستقبل كأن يقول الكفيل: أنا ضامن لك هذا المال أو هذا الدين ابتداءً من أول الشهر القادم، وفي هذه الحالة لا يكون كفيلاً إلا في ذلك الوقت، أما قبله فلا يعدّ كفيلاً ولا يطالب بالمال، وإذا توفّي قبل الوقت المحدد لا يؤخذ الدين من تركته. وفرق الحنفية بين إضافة الكفالة وتأجيل الدين المكفول به، فالكفالة المضافة هي التي تتعلق بدين غير موجود عند إنشائها، ولكنّها تعلقت به بسبب إضافتها إليه، كما لو قال الكفيل للدائن: أنا كفيل بما ستقرضه لفلان من المال، أو بسبب تعليقها به، كما لو قال: إن أقرضت فلاناً مبلغ كذا فأنا كفيل به، وهذا النوع من الكفالة لا ينعقد إلا بعد وقوع ما علّق به، ولا يترتب عليه أثر إلا من ذلك الوقت. أما إن كان الدين المكفول موجوداً عند إنشاء الكفالة، فقد يكون حالاً وقد يكون مؤجلاً، فإن كان الدين المكفول حالاً، وأضيفت كفالته إلى زمن مستقبل، كأن يقول الكفيل للدائن: كفلت لك دينك الذي على فلان ابتداءً من أول الشهر الآتي، فلا يكون للكفالة أثر إلا من أول الشهر الآتي، ويتأجل الدين بالنّسبة إلى الكفيل وحده بسبب إضافة الكفالة، أما بالنّسبة إلى المدين فلا يتغير وصف الدين بل يظلّ حالاً ; إذ لا يلزم من تأجيل الدين على الكفيل بسبب كفالته المضافة تأجيله على المدين الأصيل، وفي هذه الصّورة تكون الكفالة منعقدةً في الحال، ولكنّ آثارها لا تظهر إلا عند حلول الأجل. وإن كان الدين المكفول مؤجلاً عند إنشاء الكفالة، وكانت الكفالة مطلقةً بأن قال الكفيل: كفلت لك دينك الذي على فلان، فإنّ مطالبة الكفيل ترجأ إلى وقت حلول الدين على الأصيل ; لأنّ الكفالة المطلقة بدين تلزم بما يتصف به من الحلول أو التأجيل، وفي هذه الصّورة أيضاً تكون الكفالة منعقدةً في الحال، ولكنّ آثارها لا تظهر إلا عند حلول الأجل. ومن هذا يتضح أنّ جمهور الحنفية يجيز إضافة الكفالة بالمال إلى الزمن المستقبل، ويرتّب على ذلك: أنّ إضافتها إلى وقت معلوم. أو مجهول جهالةً غير فاحشة لا يمنع من جوازها إلى الأجل الذي ذكر، وذلك كإضافتها إلى الحصاد أو إلى المهرجان أو إلى النّيروز، أما إضافة الكفالة إلى أجل مجهول جهالةً فاحشةً - كنزول المطر - فلا تصحّ ; لأنّ ذلك ليس من الآجال المتعارفة أو المنضبطة، وإذا بطل الأجل لتفاحش الجهالة فيه وعدم تعارفه، صحت الكفالة، وكانت منجزةً. وذهب المالكية إلى صحة إضافة الكفالة إلى زمن مستقبل معلوم، وحينئذ لا يطالب الكفيل إلا إذا حل الأجل، وكذلك تصحّ الكفالة إذا أضيفت إلى أجل مجهول جهالةً غير فاحشة، كخروج العطاء، ولكنّ القاضي يضرب له أجلاً بقدر ما يرى، وعندئذ لا يترتب على الكفالة أثرها إلا بحلول الأجل الذي أضيفت إليه. وقال الحنابلة: إن كفل إلى أجل مجهول لم تصح الكفالة لأنّه ليس له وقت يستحقّ مطالبته فيه وهكذا الضمان، وإن جعله إلى الحصاد والجزاز والعطاء خرج على الوجهين، كالأجل في البيع، والأولى صحتها هنا، لأنّه تبرّع من غير عوض جعل له عوضاً لا يمنع من حصول المقصود منه فصح، كالنذر، وهكذا كلّ مجهول لا يمنع مقصود الكفالة. وقال الشافعية: لو نجز الكفالة وشرط تأخير المكفول به شهراً كضمنت إحضاره، وأحضره بعد شهر جاز، لأنّه التزام بعمل في الذّمة، فكان كعمل الإجارة يجوز حالاً ومؤجلاً. وخرج بشهر مثلاً التأجيل بمجهول، كالحصاد فلا يصحّ التأجيل إليه، والأصحّ أنّه يصحّ ضمان الحالّ مؤجلاً أجلاً معلوماً ; إذ الضمان تبرّع، والحاجة تدعو إليه، فكان على حسب ما التزمه ويثبت الأجل في حقّ الضامن على الأصحّ، فلا يطالب إلا كما التزم. ومقابل الأصحّ: لا يصحّ الضمان للمخالفة، ووقع في بعض نسخ المحرر تصحيحه، قال في الدقائق: والأصحّ ما في بقية النّسخ والمنهاج، ولو ضمن المؤجل مؤجلاً بأجل أطول من الأول فكضمان الحالّ مؤجلاً. د - الكفالة المؤقتة: 13 - توقيت الكفالة معناه: أن يكفل الكفيل الدين مدةً معلومةً محددةً، فإذا انقضت تلك المدة يبرأ بعدها من التزامه وتنتهي الكفالة، وذلك مثل قول الكفيل: أنا كفيل بنفس فلان أو بديته من اليوم إلى نهاية هذا الشهر، فإذا انقضى الشهر برئت من الكفالة. وقد اختلف الفقهاء في صحة توقيت الكفالة بناء على اختلافهم في الأثر المترتّب عليها، فمن رأى أنّ ذمة الكفيل لا تشغل بالدين وإنّما يطالب فقط بأدائه، أجاز الكفالة المؤقتة، وقيد المطالبة بالمدة المتفق عليها، أما من ذهب إلى أنّ ذمة الكفيل تصير مشغولةً بالدين إلى جانب ذمة المدين، فلم يجز توقيت الكفالة ; لأنّ المعهود في الشرع أنّ الذّمة إذا شغلت بدين صحيح فإنّها لا تبرأ منه إلا بالأداء أو الإبراء، وقبول الكفالة للتوقيت يترتب عليه سقوط الدين عن الكفيل دون أداءً أو إبراء، وتطبيقاً على ذلك ذهب أغلب الحنفية إلى أنّ الكفيل لو قال: كفلت فلاناً من هذه الساعة إلى شهر، تنتهي الكفالة بمضيّ الشهر بلا خلاف، ولو قال: كفلت فلاناً شهراً أو ثلاثة أيام... من المشايخ من قال: إنّ الكفيل في هذه الصّورة يطالب في المدة ويبرأ بمضيّ المدة... ومنهم من ذهب إلى أنّه يكون كفيلاً أبداً ويلغو التوقيت. وذهب المالكية إلى جواز توقيت الكفالة في إحدى حالتين: أن يكون المدين موسراً ولو في أول الأجل فقط، أو أن يكون معسراً والعادة أنّه لا يوسر في الأجل الذي ضمن الضامن إليه، بل بمضيّ ذلك الأجل عليه وهو معسر، فإن لم يعسر في جميعه، بل أيسر في أثنائه كبعض أصحاب الغلات والوظائف، كأن يضمنه إلى أربعة أشهر وعادته اليسار بعد شهرين، فلا يصحّ ; لأنّ الزمن المتأخّر عن ابتداء يساره يعدّ فيه صاحب الحقّ مسلّفاً، لقدرة ربّ الحقّ على أخذه منه عند اليسار، هذا قول ابن القاسم بناء على أنّ اليسار المترقب كالمحقق، وأجازه أشهب لأنّ الأصل استصحاب عسره. والأصحّ عند الشافعية أنّه لا يجوز توقيت الكفالة، كانا كفيل بزيد إلى شهر وأكون بعده بريئاً، ومقابل الأصحّ عندهم: أنّه يجوز، لأنّه قد يكون له غرض في تسليمه هذه المدة، بخلاف المال فإنّ المقصود منه الأداء ; فلهذا امتنع تأقيت الضمان قطعاً. واختلف الحنابلة في صحة توقيت الكفالة على وجهين: الأول: أنّ الكفالة تكون صحيحةً، ويبرأ الكفيل بمضيّ المدة التي عينها وإن لم يحدث فيها وفاء. والثاني: عدم صحة الكفالة; لأنّ الشأن في الدّيون أنّها لا تسقط بمضيّ الزمن.
14 - إن قيد الكفالة بشرط، فقد تصحّ الكفالة والشرط، وقد تصحّ الكفالة ويلغو الشرط، وقد تلغو الكفالة والشرط. وقد اختلف الفقهاء في التفريق بين أنواع الشّروط السابقة وأثر كلّ منها على الكفالة. فذهب الحنفية إلى أنّه لو كفل رجل عن رجل بألف درهم بأمره على أن يعطيه المكفول عنه هذا العبد رهناً ولم يشترط ذلك على الطالب، ثم إنّ المكفول عنه أبى أن يدفع العبد كان له ذلك ولا يتخير الكفيل بين أن يمضي في الكفالة وبين أن يفسخ وإن لم يسلّم له شرطه ; لأنّ هذا الشرط جرى بين الكفيل وبين المكفول عنه، ولم يجر بينه وبين الطالب، بخلاف ما لو شرط ذلك على الطالب بأن قال للطالب: أكفل لك بهذا المال على أن يعطيني المطلوب بهذا المال عبده هذا رهناً، فكفل على هذا الشرط، فأبى المطلوب أن يعطيه الرهن فإنّ الكفيل يتخير. ولو ضمنها على أن يقضيها من ثمن هذه الدار، فباع الدار بعبد، لم يلزمه المال، ولم يجبر على بيع العبد في الضمان. وقال الشافعية: الأصحّ أنّه لو شرط في الكفالة أنّه يغرم المال إن فات التسليم، كقوله: كفلت بدنه بشرط الغرم، أو على أنّي أغرم، بطلت الكفالة ; لأنّه شرط ينافي مقتضاها، بناء على أنّه لا يغرم عند الإطلاق. والقول الثاني: يصحّ بناء على مقابله أي إنّه يغرم المال. والأصحّ أنّه لا تصحّ الكفالة بشرط براءة الأصيل لمخالفة مقتضى العقد. الثاني: يصحّ الضمان والشرط، لما رواه جابر في قصة أبي قتادة للميّت، قال: «فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: هما عليك وفي مالك والميّت منهما بريء فقال: نعم. فصلى عليه»، والقول الثالث: يصحّ الضمان فقط. وقال الحنابلة: إن قال: كفلت ببدن فلان على أن يبرأ فلان الكفيل أو على أن تبرئه من الكفالة لم يصح ; لأنّه شرط شرطاً لا يلزم الوفاء به فيكون فاسداً، وتفسد الكفالة به، ويحتمل أن تصح الكفالة لأنّه شرط تحويل الوثيقة التي على الكفيل إليه، فعلى هذا لا تلزمه الكفالة إلا أن يبرئ المكفول له الكفيل الأول ; لأنّه إنّما كفل بهذا الشرط، فلا تثبت كفالته بدون شرطه. وإن قال: كفلت لك بهذا الغريم على أن تبرئني من الكفالة بفلان، أو ضمنت لك هذا الدين بشرط أن تبرئني من ضمان الدين الآخر، أو على أن تبرئني من الكفالة بفلان، خرج فيه الوجهان، والأولى: أنّه لا يصحّ، لأنّه شرط فسخ عقد في عقد، فلم يصح، كالبيع بشرط فسخ بيع آخر. وكذلك لو شرط في الكفالة أو الضمان أن يتكفل المكفول له، أو المكفول به بآخر، أو يضمن ديناً عليه، أو يبيعه شيئاً عينه أو يؤجّره داره، لم يصح ; لما ذكر. الرّكن الثاني - الكفيل: 15 - يشترط الفقهاء في الكفيل أن يكون أهلاً للتبرّع ; لأنّ الكفالة من التبرّعات، وعلى ذلك لا تصحّ الكفالة من المجنون أو المعتوه أو الصبيّ، ولو كان مميّزاً مأذوناً أو أجازها الوليّ أو الوصيّ. إلا أنّ ابن عابدين قال: إلا إذا استدان له وليّه وأمره أن يكفل المال عنه فتصحّ، ويكون إذناً في الأداء، ومفاده أنّ الصبي يطالب بهذا المال بموجب الكفالة، ولولاها لطولب الوليّ، ولا تصحّ الكفالة من مريض إلا من الثّلث. أما المحجور عليه لسفه فلا يصحّ ضمانه ولا كفالته عند جمهور الفقهاء. وذهب القاضي أبو يعلى الحنبليّ إلى أنّ كفالة السفيه تقع صحيحةً غير نافذة ويتبع بها بعد فكّ الحجر عنه، كإقراره بالدين، وكذلك لا تصحّ الكفالة مع الإكراه عند الحنفية والشافعية والحنابلة، وعند المالكية لا تلزم الكفيل المكره. أما المحجور عليه للدين، فقد ذهب الشافعية - على الصحيح عندهم -، والحنابلة، إلى أنّه يجوز له أن يكفل ; لأنّه أهل للتصرّف، والحجر يتعلق بماله لا بذمته، فيثبت الدين في ذمته الآن، ولا يطالب إلا إذا انفك عنه الحجر وأيسر. وذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنّه تصحّ كفالة المريض من مرض الموت، بحيث لا يتجاوز - مع سائر تبرّعاته - ثلث التركة، فإن جاوزته تكون موقوفةً على إجازة الورثة ; لأنّ الكفالة تبرّع، وتبرّع المريض مرض الموت يأخذ حكم الوصية. وذهب الشافعية إلى أنّ ضمان المريض يكون من رأس ماله، إلا إذا ضمن وهو معسر واستمر إعساره إلى وقت وفاته، أو ضمن ضماناً لا يستوجب رجوعه على المدين، فيكون حينئذ في حدود الثّلث، وإذا استغرق الدين مال المريض - وقضى به - بطل الضمان إلا إذا أجازه الدائن ; لأنّ الدين يقدم على الضمان.
كفالة المرأة 16 - لا يفرّق جمهور الفقهاء بين الرجل والمرأة في حكم التصرّفات المالية، ولكنّ المالكية يرون أنّ ضمان المرأة - إذا كانت ذات زوج - ينفذ في حدود ثلث مالها، أما إذا زاد على الثّلث فيصحّ ولكنّه لا يلزم إلا بإجازة الزوج. أما المرأة الأيّم غير ذات الزوج - إذا كانت لا يولى عليها - فهي بمنزلة الرجل في الكفالة. الرّكن الثالث - المكفول له: يشترط في المكفول له أن يكون معلوماً للكفيل، وقد اختلف الفقهاء في اشتراط كونه بالغاً عاقلاً، وفي اشتراط رضاه بالكفالة وقبوله لها، وذلك على النحو التالي: أ - كون المكفول له معلوماً للكفيل: 17 - ذهب الحنفية، والشافعية في الأصحّ عندهم، والقاضي من الحنابلة، إلى اشتراط كون المكفول له معلوماً للكفيل، سواء كانت الكفالة منجزةً أو معلقةً أو مضافةً، فإن كان مجهولاً له، كما لو قال: أنا كفيل بما يحصل من هذا الدلال من ضرر على الناس، لم تصح الكفالة ; لتفاوت الناس في استيفاء حقوقهم تشديداً وتسهيلاً وليعلم الضامن هل هو أهل لإسداء الجميل إليه أو لا، ثم إنّ أبا حنيفة ومحمداً يشترطان أن يكون المكفول له حاضراً في مجلس العقد - بنفسه أو بنائبه - فلو كفل الكفيل لشخص غائب عن المجلس، وبلغه الخبر فأجاز، لا تصحّ الكفالة عندهما إذا لم يقبل عنه حاضر بالمجلس ; لأنّ في الكفالة معنى التمليك، والتمليك لا يحصل إلا بإيجاب وقبول، فلا بد من توافره لإتمام صيغة العقد. وعن أبي يوسف روايتان: الراجحة منهما تجيز الكفالة للغائب عن المجلس ولا تحتاج إلى قبوله، ومع ذلك فقد اشترط أيضاً أن يكون المكفول له معلوماً للكفيل ; لأنّ الكفالة شرعت لتوثيق الدين، فإذا كان المكفول له مجهولاً، فلا يتحقق مقصود الكفالة. وذهب المالكية، والحنابلة عدا القاضي منهم، والشافعية في مقابل الأصحّ إلى أنّ جهالة المكفول له لا تضرّ، والكفالة صحيحة، فإذا قال الضامن: أنا ضامن الدين الذي على زيد للناس - وهو لا يعرف عين من له الدين - صحت الكفالة، لحديث أبي قتادة المتقدّم فقد كفل أبو قتادة دين الميّت دون أن يعرف المكفول له. ب - اشتراط البلوغ والعقل في المكفول له: 18 - ذهب المالكية والحنابلة وأبو يوسف إلى عدم اشتراط البلوغ والعقل في المكفول له ; لأنّ الكفالة تنعقد بإيجاب الكفيل دون حاجة إلى قبول المكفول له، فلا يلزم أن يكون أهلاً للقبول، وذهب أبو حنيفة ومحمد إلى اشتراط أن يكون المكفول له بالغاً عاقلاً ; لأنّ الكفالة تحتاج إلى إيجاب من الكفيل وقبول من المكفول له. ويجوز قبول الصبيّ المميّز والسفيه، لأنّ ضمان حقّهما نفع محض، فلا يتوقف على إجازة وليّهما. ج - قبول المكفول له: 19 - تقدم في صيغة الكفالة أنّ أبا حنيفة ومحمداً يريان أنّ الكفالة لا تتمّ إلا بإيجاب وقبول، وأنّ قبول المكفول له ركن فيها ; لأنّ الكفالة عقد يملك به المكفول له حق مطالبة الكفيل أو حقّاً في ذمة الكفيل، وإذا كانت كذلك وجب قبول المكفول له، إذ لا يملك إنسان حقّاً رغم أنفه، فكانت كالبيع تفيد ملكاً، فلا تتحقق إلا بإيجاب وقبول. وتقدم هناك أيضاً أنّ المالكية والحنابلة وأبا يوسف وهو الأصحّ عند الشافعية يرون أنّ الكفالة تتمّ وتتحقق بإيجاب الكفيل وحده، فلا تتوقف على قبول المكفول له، ذلك أنّ الكفالة مجرد التزام صادر من الكفيل بأن يوفّي ما وجب للمكفول له في ذمة المكفول عنه مع بقاء المكفول له على حقّه بالنّسبة إلى المدين، وذلك التزام لا معاوضة فيه، ولا يضرّ بحقّ أحدهما أو ينقص منه، بل هو تبرّع من الكفيل فيتمّ بعبارته وحده، وقد تقدم في حديث أبي قتادة: «أنّ أبا قتادة رضي الله عنه كفل الميّت دون أن يعرف الدائن أو أن يطلب قبوله فأقر النبيّ صلى الله عليه وسلم كفالته وصلى على الميّت بناء عليها». الرّكن الرابع - المكفول عنه: اشترط بعض الفقهاء أن يكون المكفول عنه معلوماً للكفيل، واشترط بعضهم رضا المكفول عنه، واشترط بعضهم كذلك أن يكون المكفول عنه قادراً على الوفاء بالمكفول به، وذلك على التفصيل الآتي: أ - كون المكفول عنه معلوماً للكفيل: 20 - ذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية في الأصحّ، والحنابلة، إلى عدم اشتراط معرفة الكفيل للمكفول عنه، للحديث المتقدّم، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم أقر الكفالة من غير أن يسأل الضأمن هل يعرف المكفول عنه أو لا، ولأنّ الضمانتبرّع بالتزام مال فلا يشترط معرفة من يتبرع عنه به كالنذر ; ولأنّ الواجب أداء حقّ فلا حاجة لمعرفة ما سواه، وذهب الحنفية وهو مقابل الأصحّ عند الشافعية وبعض الحنابلة إلى اشتراط علم الكفيل بالمكفول عنه ; ليعلم الضامن ما إذا كان المضمون عنه أهلاً لاصطناع المعروف إليه أو لا، وزاد الشافعية أنّه اشترط ذلك ليعرف هل المكفول عنه موسر وممن يبادر إلى قضاء دينه أو لا، وزاد الحنفية: أنّ اشتراط كون المكفول عنه معلوماً للكفيل هو في حالة ما إذا كانت الكفالة معلقةً أو مضافةً، أما في حال التنجيز فلا تمنع جهالة المكفول عنه صحة الكفالة، وعلى ذلك: لو قال شخص لآخر: ما بايعت أحداً من الناس أو ما أقرضت أحداً من الناس فأنا كفيل به، فإنّ الكفالة تكون غير صحيحة، ولكن لو قال لشخص: كفلت لك بمالك على فلان أو فلان، صحت الكفالة، ويكون للكفيل حقّ تعيين المكفول عنه منهما، لأنّه الملتزم بالدين. ب - رضا المكفول عنه بالكفالة: 21 - اتفق الفقهاء على أنّه لا يشترط لصحة الكفالة رضا المكفول عنه أو إذنه، بل تصحّ مع كراهته لذلك، ففي الحديث السابق «أقر النبيّ صلى الله عليه وسلم كفالة أبي قتادة رضي الله عنه دين الميّت»، والميّت لا يتأتى منه رضاء ولا إذن ; ولأنّ عقد الكفالة التزام المطالبة، وهذا الالتزام تصرّف في حقّ نفسه، وفيه نفع للطالب، ولا ضرر فيه على المطلوب، لأنّ ضرره بثبوت الرّجوع، ولا رجوع عليه ; لأنّه عند أمره، وعند أمره يكون قد رضي به، ولأنّ قضاء دين الغير بغير إذنه جائز، فالتزامه أولى، وكما يصحّ الضمان عن الميّت اتّفاقاً وإن لم يخلف وفاءً. ويترتب على ذلك أنّ الكفالة تصحّ إذا كان المكفول عنه صبيّاً أو مجنونًا أو غائباً ; لأنّ الحاجة إلى الكفالة تظهر غالباً في مثل هذه الأحوال. ج - قدرة المكفول عنه على تنفيذ محلّ الالتزام: 22 - ذهب الحنابلة والصاحبان (محمد وأبو يوسف) إلى أنّه لا يشترط لصحة الكفالة أن يكون المكفول عنه قادراً على تسليم المكفول به، فيصحّ الضمان عن كلّ من وجب عليه حقّ، حيّاً كان أو ميّتاً، مليئاً أو مفلساً، ترك كفيلاً بهذا الدين أو لم يترك، ففي الحديث: «أقر النبيّ صلى الله عليه وسلم الكفالة عن ميّت لم يترك وفاءً ولا كفيلاً»، ويؤيّد ذلك أيضاً صحة إبراء المتوفى عن دين وإن لم يترك مالاً، وصحة التبرّع بالأداء عنه. وذهب أبو حنيفة إلى أنّه يشترط في المكفول عنه أن يكون قادراً على الوفاء بالمكفول به إما بنفسه وإما بنائبه، فلا يصحّ عنده ضمان ميّت مدين توفّي لا عن تركة ولا عن كفيل بالدين ; لأنّ الميّت في هذه الحال عاجز عن الوفاء، غير أهل للمطالبة، والضمان: ضمّ ذمة إلى ذمة في الدين أو في المطالبة، ولا دين هنا ولا مطالبة لأنّه بالوفاة عن غير مال ولا كفيل تصير ذمته خربةً وغير صالحة لأن تشغل بدين، وعنده أنّ الحديث المتقدّم يحمل على الإقرار بكفالة سابقة لا على إنشائها، أو أنّه وعد بالتبرّع وهو جائز عن الميّت. الرّكن الخامس: محلّ الكفالة: قد تكون الكفالة بالمال، ويطلق عليها كثير من الفقهاء: الضمان، وقد تكون بالنفس، ويطلق عليها البعض: كفالة البدن، وكفالة الوجه. قد يكون المكفول به ديناً، وقد يكون عيناً، والحكم يتغير في كلّ حالة: أ - كفالة الدين: 23 - يشترط الفقهاء لصحة كفالة الدين: أن يكون ديناً صحيحاً، وأن يكون واجباً في الذّمة على التفصيل الآتي: أولاً - أن يكون ديناً صحيحاً: يشترط في الدين المكفول به أن يكون ديناً صحيحاً، وهو ما لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء، وعلى ذلك تجوز كفالة نفقة الزوجة عند وجوبها بالقضاء أو الرّضاء سواء كانت ماضيةً أو حاضرةً أو مستقبلةً. وقال الشافعيّ - في الجديد -: تجب نفقة الزوجة بالعقد والتمكين وحينئذ لا يصحّ ضمان النفقة المستقبلة. فإذا كان الدين صحيحاً، فلا يشترط جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعيّ في القديم أن يكون معلوم القدر والصّفة والعين، لأنّ الكفالة من قبيل التبرّع، والتبرّع يصحّ مع الجهالة كالنذر، وقد جرى بها العرف، والحاجة إلى التعامل بها تبرّر ذلك، غير أنّ الحنابلة يشترطون لصحة الكفالة بدين مجهول أن يكون مآله إلى العلم بمقداره، كأن يقول الكفيل: كفلت لك بمالك قبل فلان، ولا يعلم مقدار ذلك. وذهب الشافعيّ - في الجديد - إلى عدم صحة الكفالة بالدين المجهول، وهو ما ذهب إليه الثوريّ والليث وابن أبي ليلى وابن المنذر وغيرهم ; لأنّ الكفالة التزام دين في الذّمة، والتزام المجهول غرر ينهى عنه الشارع، فوجب أن يكون الدين معلوماً حتى يكون الكفيل على بينة من أمره ومن قدرته على الوفاء بما التزم به. ثانياً - أن يكون واجباً في الذّمة: يشترط الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعيّ في القديم أن يكون الدين المكفول به واجباً في الذّمة عند الكفالة به، أو أن يكون مآله إلى الوجوب، وعلى ذلك تصحّ الكفالة بالدين الموعود به - وإن لم يكن موجوداً عند الكفالة - لأنّ مآله إلى الوجوب، وذلك كأن يقول الكفيل: أقرض فلاناً وأنا كفيل بما ستقرضه إياه. واشترط الشافعيّ - في الجديد - أن يكون الدين ثابتًا في الذّمة عند الكفالة، وعلى ذلك: فإنّ الكفالة لا تصحّ - على هذا القول - بما سيكون من دين موعود به، وما ذهب إليه الشافعيّ - في الجديد - من عدم صحة الكفالة بالدين قبل ثبوته، يرجع إلى أنّ الكفالة ضمّ ذمة إلى ذمة في الدين، والدين قبل ثبوته لا تشغل به ذمة، فلا يتحقق معنى الكفالة. واتفق الفقهاء على صحة الكفالة بالدرك - رغم أنّه لم يثبت ولم يلزم - لأنّ الحاجة تدعو إليه، وعلى ذلك يجوز أن يضمن شخص لأحد العاقدين ما بذله للآخر إن خرج مقابله مستحقّاً أو معيباً أو ناقصاً ورُدَّ، سواء كان ذلك قبل قبض الثمن أو كان بعده. والمذهب عند الشافعية: أنّ ضمان الدرك إنّما يصحّ بعد القبض ; لأنّه إنّما يضمن ما دخل في يد البائع، ولا يدخل الثمن في ضمانه إلا بقبضه، وضمان الدرك أن يضمن للمشتري الثمن إن خرج المبيع مستحقّاً، أو إن أخذ بشفعة سابقة على البيع ببيع آخر، ولا يختصّ ضمان الدرك بالثمن بل يجري في المبيع فيضمنه للبائع إن خرج الثمن المعين مستحقّاً أو أخذ بشفعة سابقة. أما الجعل في الجعالة فأجاز الكفالة به الحنفية والمالكية والحنابلة، سواء كانت الكفالة قبل الشّروع في العمل أو كانت بعده لأنّه آيل إلى اللّزوم، والأصحّ عند الشافعية عدم صحة الكفالة بالجعل قبل الفراغ من العمل ; لأنّه غير آيل للّزوم بنفسه، بل بالعمل، ومقابل الأصحّ جواز الكفالة به بعد الشّروع في العمل. ب - كفالة العين: 24 - المقصود بضمان العين أو كفالتها: أن يلتزم الكفيل بردّ عينها إن كانت قائمةً، وبردّ مثلها أو قيمتها إذا تلفت، وللفقهاء في حكم كفالة الأعيان تفصيل يرجع إلى ثبوت الحقّ في ذمة الأصيل أو عدم ثبوته، وذلك على التفصيل الآتي: قد يكون المكفول به من الأعيان المضمونة سواء كانت مضمونة بنفسها أو مضمونة بغيرها، وقد يكون المكفول به أمانةً في يد حائزه، فهذه حالات ثلاث تفصيلها كما يلي: أ - العين المضمونة بنفسها: 25 - هي التي يجب على حائزها أن يردها إلى صاحبها إن كانت قائمةً أو يرد مثلها أو قيمتها إن تلفت، وذلك كالعين المغصوبة أو المقبوضة على سوم الشّراء. وقد ذهب الحنفية والحنابلة وهو قول عند الشافعية إلى صحة كفالة هذا النوع من الأعيان: فيلتزم الكفيل بردّ العين ما دامت قائمةً، وبردّ المثل إن كانت مثليةً، وبردّ القيمة إن كانت قيميةً، والحكم كذلك عند الحنفية في العين المبيعة بعقد فاسد. وذهب المالكية وهو قول آخر للشافعية إلى أنّه لا تجوز الكفالة بالأعيان، على أنّه إذا استحق لزمه عينه، وإنّما تصحّ إذا ضمن المعين على أنّه إذا تلف بتعدّ أو تقصير التزم بدفع قيمته أو بردّ مثله، وعلى ذلك: إذا ضمن عين المغصوب لم يصح الضمان، ولكن إذا كفله على أنّه ملزم بضمانه إذا تعذر ردّه صح الضمان. ب - العين المضمونة بغيرها: 26 - وهي التي يجب على حائزها أن يردها إلى صاحبها إن كانت قائمةً، فإذا هلكت لا يجب أن يرد مثلها أو قيمتها، بل يجب عليه التزام آخر، مثال ذلك: المبيع في يد البائع، فإنّه مضمون بالثمن، فإذا هلك سقط الثمن عن المشتري إذا لم يكن دفعه، ووجب على البائع ردّه إليه إن كان دفعه، وكذلك الرهن في يد المرتهن، فإنّه مضمون بالدين إذا كانت قيمته تزيد عليه، وإلا كان مضموناً بقدر قيمته من الدين. وقد ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنّ هذا النوع من الأعيان يجوز ضمان تسليمه فقط ما دام قائماً، فإذا هلك سقطت الكفالة، لأنّه إذا هلك هلك على صاحب اليد بما هو مضمون به، فالمبيع مضمون بالثمن، وإذا هلك في يد البائع سقط الثمن عن المشتري، وعند المالكية لا يصحّ ضمان الأعيان، على معنى تسليمها بذاتها، وقد تقدم في العين المضمونة بنفسها عرض قولي الشافعية، فيجريان أيضاً في هذه المسألة. ج - الأمانة: 27 - قسم الحنفية الأعيان التي تعدّ أمانةً في يد حائزها قسمين: قسم يجب على صاحب اليد تسليمه، بمعنى أنّه ملتزم بأن يسعى إلى تسليمه إلى مالكه، كالعارية في يد المستعير والعين المستأجرة في يد المستأجر، وهذا القسم تجوز الكفالة بتسليمه لوجوب التسليم على صاحب اليد، فإذا هلك لا يلزم الكفيل شيء لكونه أمانةً، والأمانة إذا هلكت تهلك مجاناً. والقسم الآخر لا يجب على صاحب اليد تسليمه، بل على المالك أن يسعى إلى ذلك، كالودائع وأموال المضاربة، وهذا القسم لا تجوز الكفالة بتسليمه، كما لا تجوز بقيمته ; إذ ليس شيء منهما مضموناً أو واجباً على صاحب اليد، ولا كفالة إلا بما هو واجب. وذهب المالكية إلى عدم صحة ضمان الودائع والعاريات ومال القراض، على أنّها إذا تلفت أتى بعينها، ولكن إذا ضمنها على أنّها إذا تلفت بتعدّ أو تقصير التزم بدفع القيمة أو ردّ المثل، صح الضمان ولزم ; لأنّها كفالة معلقة على ثبوت الدين، وهي جائزة عندهم. وذهب الشافعية إلى أنّ العين إذا لم تكن مضمونة على من هي في يده، كالوديعة والمال في يد الشريك والوكيل والوصيّ، فلا يصحّ ضمانها ; لأنّ الواجب فيها التخلية دون الردّ. وذهب الحنابلة إلى أنّ الأمأنات، كالوديعة والعين المؤجرة والشركة والمضاربة والعين التي يدفعها إلى القصار والخياط لا يصحّ ضمانها إن ضمنها من غير تعدّ فيها، لأنّها غير مضمونة على من هي في يده، فكذلك على ضامنه، أما إن ضمنها إن تعدى فيها فظاهر كلام أحمد يدلّ على صحة الضمان، فعلى هذا إن تلفت العين بغير تعدّ ولا تفريط لم يلزم الضأمن شيء، وإن تلفت بتفريط أو تعدّ لزم الحائز ضمانها، ولزم ضأمنه ذلك ; لأنّها مضمونة على من هي في يده، فلزم ضأمنه، كالغصوب والعواريّ، وهذا في الحقيقة ضمان ما لم يجب، وهو جائز عندهم.
28 - هي التزام الكفيل بإحضار المكفول إلى المكفول له أو إلى مجلس الحكم أو نحو ذلك، وفي هذه الحالة يتحد المكفول به والمكفول عنه. وقد اختلفت كلمة الفقهاء في حكم الكفالة بالنفس، وفي مضمونها وذلك على التفصيل التالي: أ - حكم الكفالة بالنفس: 29 - ذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة إلى أنّ الكفالة بالنفس صحيحة، وهذا مذهب شريح والثوريّ والليث بن سعد وغيرهم، لقوله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ}، ولما رواه حمزة بن عمرو الأسلميّ: " أنّ عمر رضي الله عنه بعثه مصدّقاً، فوقع رجل على جارية امرأته، فأخذ حمزة من الرجل كفلاء حتى قدم على عمر، وكان عمر قد جلده مائة جلدة، فصدقهم، وعذره بالجهالة "، قال ابن حجر: استفيد من هذه القصة مشروعية الكفالة بالأبدان، فإنّ حمزة بن عمرو الأسلمي صحابيّ، وقد فعله، ولم ينكر عليه عمر مع كثرة الصحابة حينئذ، وروى البخاريّ كذلك قول جرير والأشعث لعبد الله بن مسعود في المرتدين: استتبهم وكفّلهم، فتابوا وكفلهم عشائرهم، قال ابن حجر: قال ابن المنير: أخذ البخاريّ الكفالة بالأبدان في الدّيون من الكفالة بالأبدان في الحدود بطريق الأولى، والكفالة بالنفس قال بها الجمهور. والمذهب عند الشافعية صحة كفالة البدن في الجملة للحاجة إليها واستؤنس لها بقوله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ}. وفي قول لا تصحّ ; لأنّ الحر لا يدخل تحت اليد ولا يقدر على تسليمه، وقطع بعضهم بالأول. ب - مضمون الكفالة بالنفس: 30 - لا خلاف بين الفقهاء في صحة كفالة النفس بالنظر إلى من عليه دين، ولكنّهم اختلفوا في جوازها ببدن من عليه حدّ أو قصاص، وذلك على التفصيل الآتي: ذهب الحنفية إلى جواز الكفالة ببدن من عليه دين ; لأنّها مجرد التزام بإحضار من يجب إحضاره إلى مجلس ينبغي أن يحضره، ولا تتضمن التزاماً بدين المكفول إلا بالشرط، كأن يقول الكفيل: إن لم أحضره إلى مجلس القضاء الفلانيّ في وقت كذا فعلي ما عليه من الدين. كما ذهبوا إلى عدم جواز الكفالة ببدن من عليه حدّ خالص لله، كحدّ الزّنا وشرب الخمر ; لأنّها تندرئ بالشّبهات، فلا يليق بها الاستيثاق، سواء طابت نفس المطلوب بالكفالة أو لم تطب، وسواء كان ذلك قبل إقامة البينة أو بعدها، أما الكفالة ببدن من عليه حدّ فيه حقّ للعبد، كحدّ القذف، أو ببدن من عليه قصاص، فإنّها تصحّ باتّفاق الحنفية، إن طابت بها نفس المطلوب ; لأنّه أمكن ترتيب موجبه عليه، وهو تسليم النفس ; لأنّ تسليم النفس فيهما واجب، فيطالب به الكفيل، فيتحقق الضمّ. وإن لم تطب نفس المطلوب بإعطاء الكفيل بلا جبر - في القصاص وحدّ القذف - فلا تجوز الكفالة عند أبي حنيفة، أي لا يجبر على إعطاء كفيل بنفسه يحضره في مجلس القضاء لإثبات ادّعاء خصمه عليه، وتجوز الكفالة بالبدن في هذه الحالة عند الصاحبين، لوجود حقّ العبد، فيليق الاستيثاق. ويميّز المالكية بين نوعين من كفالة الوجه:
31 - وهو التزام الإتيان بذات المضمون وإحضاره وقت الحاجة إليه، وهذا لا يجوز إلا إذا كان المضمون مديناً ; لأنّ مقتضى الضمان إحضاره إلى الطالب ليتمكن من استيفاء دينه منه، وبناء على ذلك لا يصحّ ضمان الوجه فيمن يثبت عليه قصاص أو حدّ أو تعزير، وللزوج ردّ ضمان الوجه إذا صدر من زوجته، سواء كان ضمانها له أو لغيره، وسواء كان الدين الذي على المضمون يبلغ ثلث مالها أو أقل أو أكثر ; لأنّه مظنّة لخروجها لطلبه، وفي ذلك معرة عليه.
32 - وهو التزام طلب الغريم والتفتيش عليه إن تغيب والدلالة عليه دون الالتزام بإحضاره، وقيل: يلتزم بإحضاره، ولذا صح ضمان الطلب فيمن كان مطلوباً بسبب حقّ ماليّ، أو بسبب قصاص ونحوه من الحقوق البدنية من حدود وتعزيرات متعلّقة بآدميّ، كأن يقول الكفيل: أنا حميل بطلبه، أو لا أضمن إلا الطلب، أو لا أضمن إلا وجهه، أو أضمن وجهه بشرط عدم غرم المال إن لم أجده. وحاصل كفالة البدن عند الشافعية كما قال الإمام الغزاليّ: التزام إحضار المكفول ببدنه، فكلّ من يلزمه حضور مجلس الحكم عند الاستعداء، أو يستحقّ إحضاره، تجوز الكفالة ببدنه، فتجوز الكفالة ببدن من عليه حقّ ماليّ لآدميّ كمدين وأجير وكفيل، وببدن من عليه عقوبة آدميّ كالقصاص وحدّ القذف - على الأظهر - وقيل: لا تصحّ قطعاً، ولا تصحّ الكفالة ببدن من عليه حدّ لله تعالى كالزّنا والخمر - على المذهب - وقيل: قولان. فإن كفل بدن من عليه مال لم يشترط العلم بقدره ; لعدم لزومه للكفيل، ولكن يشترط أن يكون مما يصحّ ضمانه. وتصحّ الكفالة ببدن صبيّ ومجنون بإذن وليّهما ; لأنّه قد يستحقّ إحضارهما لإقامة الشهادة على صورتهما في الإتلاف وغيره، وببدن محبوس وغائب، وإن تعذر تحصيل الغرض في الحال، وببدن ميّت قبل دفنه ليشهد على صورته بإذن الوارث. والقاعدة: أنّ كل دين، لو ادّعي به على شخص عند حاكم لزمه الحضور له تصحّ الكفالة ببدن من هو عليه. وذهب الحنابلة إلى صحة الالتزام بإحضار من عليه حقّ ماليّ إلى ربّه، سواء من كان عليه الحقّ حاضراً أو غائباً، ولذا صحت الكفالة ببدن من عليه دين لازم، معلوماً كان الدين - للكفيل - أو مجهولاً، ولا يمنع من جوازها أن يكون المكفول محبوساً عند الحاكم، إذ المحبوس عنده يمكن تسليمه بأمر الحاكم. ولا تصحّ الكفالة ببدن من عليه حدّ لله، - كحدّ الزّنا، أو ببدن من عليه حدّ لآدميّ، كحدّ القذف، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه مرفوعاً: «لا كفالة في حدّ» ; ولأنّ مبناه على الإسقاط والدرء بالشّبهة، فلا يدخله الاستيثاق ولا يمكن استيفاؤه من غير الجاني، ولا تصحّ الكفالة ببدن من عليه قصاص ; لأنّه بمنزلة الحدّ، وتصحّ الكفالة بالصبيّ والمجنون، وببدن المحبوس والغائب. وتصحّ الكفالة - عندهم - مع اشتراط أن يضمن المال إذا لم يحضر المكفول، وتصحّ الكفالة حالةً ومؤجلةً، كما صح الضمان كذلك.
يختلف الأمر فيما إذا كانت الكفالة بالمال أو بالنفس. أ - كفالة المال: قد يكون المال المكفول به ديناً، وقد يكون عيناً. أولاً - كفالة الدين: يتعلق بكفالة الدين أحكام هي: حقّ المطالبة: 33 - ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنّ الدائن المكفول له يستطيع أن يطالب الكفيل بأداء الدين عند حلوله دون أن يتقيد بتعذّر مطالبة الأصيل المكفول عنه، كما يستطيع أن يطالب الأصيل به عند حلول أجله عليه ; لأنّ ذمة كلّ منهما مشغولة بالدين جميعه، فكان له مطالبة أيّهما شاء اجتماعاً وانفراداً. أما المالكية فعندهم رواية - جرى عليها العمل في بعض البلاد - وهو الأظهر، تقرّر نفس الحكم. وعندهم رواية أخرى لا تجيز للدائن المكفول له أن يطالب الكفيل بالدين المكفول به إذا كان الدين حالاً والأصيل حاضر موسر ليس ذا لدد في الخصومة ولا مماطلًا في الوفاء، أو كان الأصيل غائباً وله مال حاضر ظاهر يمكن الاستيفاء منه بدون بعد ومشقة، وهذا إذا لم يكن قد اشترط في عقد الكفالة أن يأخذ بالحقّ من أيّهما شاء، وذلك أنّ الدين إنّما وجب ابتداءً على الأصيل، والكفالة وثيقة فلا يستوفى الحقّ منها إلا عند تعذّر استيفائه من الأصيل، كالرهن. تعدّد الكفلاء: 34 - للدائن المكفول له أن يطالب كل واحد من الكفلاء بكلّ الدين إذا كانت كفالتهم على التعاقب، ويكون الكفيل الأول بالنّسبة للكفيل الثاني كالأصيل بالنّسبة للكفيل المنفرد ; لأنّ كل واحد منهم كفيل بكلّ الدين فلا يؤثّر في ضمانه أن يضمنه غيره، وإذا تعدد الكفلاء بالدين في عقد واحد، فإنّ الدين ينقسم عليهم بحسب رءوسهم - عند الحنفية والمالكية والحنابلة، وفي قول عند الشافعية - لأنّ الضأمن للدين مجموعهم، فصاروا في ضمانه شركاء، والمكفول به يقبل الانقسام، فوجب أن ينقسم عليهم. والقول الآخر للشافعية: أنّ للدائن قبل كلّ واحد منهم من الحقوق ما له قبل الكفيل المنفرد، إذ يعدّ كلّ واحد منهم كفيلاً بكلّ الدين. وزاد المالكية أنّ الدائن لو اشترط حمالة بعضهم عن بعض، كان له أخذ جميع حقوقه من أحدهم إن غاب غيره أو افتقر فصار معدماً، أما إن حضروا جميعاً ملاءً فإنّه يتبع كل واحد منهم بحصته فقط حسب انقسام الدين عليهم. زمان ومكان وموضوع المطالبة: 35 - يتحدد التزام الكفيل بما كان يلتزم به الأصيل من دين، فيؤدّيه في الزمان والمكان المتفق عليهما، وذلك مع مراعاة ما تضمنه عقد الكفالة من الشّروط، ومع مراعاة ما تقدم بيانه في صيغة الكفالة من تنجيز أو تعليق أو إضافة إلى أجل أو تأقيت أو اقتران بشرط. وإذا مات الكفيل بالدين المؤجل حل الدين بموته عند الحنفية ما عدا زفر، والشافعية، وفي رواية عند الحنابلة ; لأنّ ذمته خربت، وثبت للدائن حقّ مطالبة الورثة بالدين من تركته. وفي المشهور من مذهب أحمد: أنّ الدين لا يحلّ بالموت إذا ما وثقه الورثة برهن أو كفيل. وذهب المالكية إلى أنّه إذا مات الضامن قبل حلول أجل الدين، انتهى ضمانه في حقّ نفسه، وخيّر الطالب بين بقائه إلى حين حلول الأجل ومن ثم يطالب الأصيل، وبين أن يتعجل استيفاء حقّه فيأخذه من تركة الضامن، حتى لو كان الأصيل حاضراً مليئاً لعدم حلول أجله، أما إذا مات الضامن عند حلول الأجل أو بعده فلا يؤخذ الدين من التركة إذا كان المدين حاضراً مليئاً، وإنّما يؤخذ منها إذا كان غائباً معدماً، أو لا يستطاع الاستيفاء منه بدون مشقة. حقوق الكفيل قبل الدائن: 36 - إذا كان الضمان بإذن الأصيل كان للكفيل الحقّ في مطالبة الدائن - إذا ما توفّي الأصيل قبل الوفاء - أن يأخذ من تركة مدينه ما يفي بدينه، أو ما يخصّه منها عند المزاحمة، أو يبرئه، ليتجنّب بذلك احتمال تلفها وعدم الرّجوع فيها إذا ما وفى الدين من ماله، ويثبت هذا الحقّ للضامن عندما يفلّس الأصيل، فيطلب الدائن بيع مال الأصيل ليستوفي دينه أو ما يخصّه عند المزاحمة، وذلك قبل الرّجوع عليه. وذهب المالكية إلى أنّ للضامن - إذا ما طالبه الدائن بالدين - أن يدفع طلبه بأنّ المدين حاضر موسر فيجب مطالبته أولاً، أو بأنّ للمدين مالاً حاضراً يمكن الوفاء منه بدون مشقة، وإن لم يكن المدين حاضراً، وللضامن - عندهم - حقّ الاعتراض على تأجيل الدائن الدين للمدين عند يساره، فيخير الدائن بين أمرين: إما عدوله عن التأجيل، وإما إمضاؤه التأجيل وإبراؤه من الكفالة. كذلك للضامن أن يلزم الدائن بمطالبة المدين بالدين إذا ما حل أجله، خشية أن يموت أو يفلس إذا كان المدين قادراً على الوفاء، وإلا أسقط الكفالة. ثانياً - كفالة العين: 37 - ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنّ الكفيل إذا كفل عيناً مضمونة بنفسها - فإنّه يلتزم بتسليمها ما دامت قائمةً، وإن هلكت ألزم بردّ المثل إن كانت مثليةً أو بدفع القيمة إن كانت قيميةً. وإذا كفل عيناً مضمونة بغيرها، فلا يجب عليه إلا تسليمها إن كانت قائمةً، وإن هلكت سقطت الكفالة ولا يلزمه شيء. وإذا كفل أمانةً واجبة التسليم، فإنّه يلتزم بتسليمها إن كانت قائمةً، وإن هلكت لا يلزمه شيء، وإذا كفل بأمانة غير واجبة التسليم فلا يلزمه شيء. وذهب المالكية إلى أنّ الكفيل إذا ضمن العين على أنّها إذا تلفت بتعدّ أو تقصير التزم بردّ المثل أو دفع القيمة، يكون ملزماً بهذا الضمان، أما إذا ضمن تسليمها بذاتها، فلا يلزمه شيء. وذهب الشافعية على القول بصحة كفالة الأعيان المضمونة إلى أنّ الضأمن يلتزم بتسليمها إن كانت قائمةً، فإن هلكت فعندهم وجهان: أولهما يوجب ضمانها على الكفيل، والآخر لا يضمنه وتنتهي الكفالة. ب - كفالة النفس: 38 - ذهب الحنفية إلى أنّ الكفالة بالنفس يترتب عليها وجوب التخلية بين الطالب والمكفول في موضع يقدر الطالب فيه على إحضاره مجلس القضاء، إذ يحصل بذلك مقصود العقد، وهو استيفاء الحقّ أمام القاضي، فإذا قام بذلك انتهت الكفالة، وبناء على ذلك: لو سلم الكفيل المطلوب في صحراء، فلا يكون قد أوفى بالتزامه، ولكن لو سلمه في مصر، فإنّه يخرج بهذا التسليم من الكفالة، حتى لو قيّدت بالتسليم في مجلس القاضي، إذ الغرض من الكفالة تسليم المطلوب في مكان يتمكن فيه من إحضاره مجلس القاضي، فلا يتقيد بمكان خلاف مجلسه ; لعدم الفائدة من التقييد. ولو شرط في الكفالة أن يسلّمه في مصر معين، فسلمه في مصر آخر، خرج من الكفالة عند أبي حنيفة ; لأنّ المقصود هو الوصول إلى الحقّ أمام قاض مختصّ، فلا يتقيد بقاض دون آخر، وذهب الصاحبان إلى أنّ الكفيل لا يخرج بذلك التسليم من الكفالة ; لأنّ الطالب وضع شرطاً معتبراً وهو يقصد الإلزام به، فقد تكون حجته وبينته في هذا المصر دون غيره. ولو تعدد الكفلاء بالنفس فأحضر المطلوبَ أحدهم، برئ الجميع إن كانت الكفالة بعقد واحد; لأنّ المكفول فيها فعل واحد - هو إحضاره - فيتمّ بأحدهم، وإن كانت الكفالة بعقود متعدّدة بعددهم، لم يبرأ إلا من يحضر المطلوب ; لأنّ المكفول حينئذ أفعال متعدّدة بعددهم، ففعل أحدهم لا يعدّ فعلاً لغيره. ويلتزم الكفيل بإحضار المطلوب في الوقت المعين، ولا يحقّ له أن يطلب مهلةً إذا كان محلّ المطلوب معلوماً، فإذا لم يحضره أجبر على ذلك ; لأنّه امتنع عن أداء حقّ لازم عليه، ولكن لا يلزمه دين المطلوب ; لأنّ مقتضى كفالة البدن - عند الحنفية - مجرد الالتزام بالإحضار، إلا إذا شرط ذلك في العقد كأن يقول: إن لم أحضره.. فعلي ما عليه من الدين، فيلزمه الدين، ولا يبرأ من الكفالة بالنفس إن كان قادراً على إحضاره، وإذا رفض المطلوب مطاوعة الكفيل بتسليم نفسه، كان له مراجعة الحاكم ليعينه بأعوانه، وهذا إذا كانت الكفالة بأمر من المطلوب، فإن لم تكن بأمره، فلا يملك الكفيل إلا إرشاد المكفول له إلى مكانه، ثم يخلّي بينهما. وإذا ارتد المكفول ولحق بدار الحرب، لم يخرج الكفيل من الكفالة ; لأنّ لحاقه بدار الحرب إنّما اعتبر كموته حكماً في حقّ أمواله وقسمتها بين ورثته، أما في حقّ نفسه فهو مطالب بالتوبة والرّجوع وتسليم نفسه إلى خصمه، فيبقى الكفيل على كفالته، ويمهله القاضي مدةً مناسبةً. وإذا مات المكفول به برئ الكفيل بالنفس من الكفالة ; لأنّه عجز عن إحضاره ; ولأنّه سقط الحضور عن الأصيل فيسقط الإحضار عن الكفيل، وكذا إذا مات الكفيل لأنّه لم يعد قادراً على تسليم المكفول بنفسه، وماله لا يصلح لإيفاء هذا الواجب بخلاف الكفيل بالمال، ولو مات المكفول له فللوصيّ أن يطالب الكفيل، فإن لم يكن فلوارثه لقيامه مقام الميّت. وذهب المالكية إلى أنّ الكفيل بضمان الوجه يلتزم بتسليم المطلوب بعد حلول الدين في مكان يقدر فيه الطالب على خلاص دينه منه أمام القضاء، فيبرأ من الكفالة إذا سلمه في مكان به حاكم أو قاض، وإن لم يكن بالبلد الذي حدث به الضمان، كما يبرأ إذا سلم المطلوب نفسه للدائن بعد حلول دينه إن أمره الضامن بذلك، فإن كان التسليم قبل حلول الدين، أو بعده من غير أمر الكفيل، لم يبرأ الضامن من الكفالة. والمشهور في المذهب: أنّه إذا لم يحضر الضامن المضمون في الوقت المعين، فإنّه يلزم بما عليه من الدين من بعد تلوّم " إمهال " خفيف - كاليوم - إن قربت غيبة الغريم، وبلا تلوّم إن بعدت غيبته، وذهب ابن عبد الحكم إلى القول بعدم الضمان، وأنّه لا يلتزم إلا بإحضاره. وإذا أثبت الكفيل أنّ المطلوب كان معسراً عند حلول الأجل، فلا يلزمه الضمان خلافاً لابن رشد، وكذلك لا يلتزم بالضمان إذا أثبت أنّ المكفول قد مات قبل الحكم عليه بالغرم ; لأنّ النفس المضمونة قد ذهبت، أما إن ثبت موته بعد الحكم فالغرم ماض. أما ضمان الطلب: فلا يلتزم فيه الكفيل إلا بطلب الغريم بما يقوى عليه، فإن ادعى أنّه لم يجده صدّق، وحلف أنّه ما قصر في طلبه ولا يعلم موضعه، فإذا نكل عن اليمين غرم. وكذلك يغرم إذا فرط في الإتيان به، أو في الدلالة عليه عند علمه بموضعه حتى تمكن من الهرب. وذهب الشافعية إلى أنّ الكفيل بالبدن يلتزم بإحضار الغريم وتسليمه في المكان المعين بالعقد إن كان صالحاً، وإلا تعين مكان الكفالة إن صلح، وقيد بلد التسليم معتبر تجب مراعاته، ويجوز للمكفول له أن يرفض التسليم في غيره، ولو عين مكان محدد في البلد ففي المهذب: إن أحضره في غير الموضع الذي شرط فيه التسليم فإن كان عليه ضرر بقبوله فيه، أو كان له غرض في ردّه، لم يلزمه قبوله، وإن لم يكن عليه ضرر وليس له غرض وجب قبوله، فإن لم يتسلمه أحضر الكفيل المطلوب عند الحاكم ليتسلم عنه ويبرأ. ويبرأ الكفيل إذا سلم الغريم في مكان التسليم بلا حائل يمنع الطالب منه، كمتغلّب يمنعه منه، وإلا فلا يبرأ. وكذلك يبرأ من الكفالة إذا سلم المكفول نفسه، مظهراً أنّه يسلّم نفسه براءةً للكفيل، ولا يكفي مجرد حضوره دون إظهار ذلك. وإذا غاب المطلوب لم يلزم الكفيل بإحضاره إن جهل مكانه لقيام عذره، فإن علم مكانه لزمه إحضاره عند أمن الطريق، ويمهل مدة الذهاب والإياب على العادة، فإن مضت ولم يحضره حبس ما لم يؤدّ الدين لأنّه مقصّر، وقيل: إن كانت غيبته مسافة قصر لم يلزم إحضاره، والأصحّ: أنّه إذا مات المكفول أو هرب أو توارى ولم يعرف مكانه لم يطالب الكفيل بما عليه من الدين، ومقابل الأصحّ: أنّه يغرم، والأصحّ: أنّه لو شرط في الكفالة تغريم الكفيل المال عند عدم إحضار المكفول بطلت ; لأنّه شرط ينافي مقتضاها، ومقابل الأصحّ: أنّ الكفالة تصحّ مع هذا الشرط. ومذهب الحنابلة: أنّ الكفالة بالنفس إذا وقعت مطلقةً عن المكان تعين إحضار المكفول في محلّ الكفالة، فإن تعين المكان بالعقد وجب إحضاره فيه، وإذا سلم المكفول نفسه في زمان التسليم ومكانه برئ الكفيل بذلك كما يبرأ الكفيل بموت المكفول. وإذا غاب المكفول، وعلم الكفيل بمكانه، أمهل بقدر ما يمضي إلى هذا المكان ويحضره، فإن مضى إليه ولم يحضره لتواريه أو هربه أو امتناعه، لزمه ما عليه من الدين، إلا إذا شرط البراءة من المال، وإن لم يعلم مكانه لزمه ما على المكفول من الدين لتقصيره في تقصّي حاله، فكان بسبب ذلك متلفاً. وإذا ضمن شخص لآخر معرفة إنسان، كأن جاء إنسان إلى آخر يستدين منه - مثلاً - فقال له: لا أعرفك فلا أعطيك، فجاء شخص وضمن له معرفته، فداينه، ثم غاب المستدين أو توارى، أخذ الضأمن بالدين، ما لم يعرّف الدائن بالمدين.
39 - إذا كانت الكفالة بأمر المدين، فإنّ الكفيل يحقّ له أن يطالبه بتخليصه من الكفالة، وكذلك يحقّ له أن يرجع عليه بما أداه للدائن على التفصيل الآتي: أ - مطالبة المدين بتخليصه من الكفالة: 40 - ذهب الحنفية إلى أنّ الكفالة إذا كانت بأمر المدين، ثبت للكفيل الحقّ في أن يطالبه بتخليصه من الكفالة إذا طالبه الدائن بالدين، وذلك بأن يؤدّي الدين للدائن، ويثبت له الحقّ كذلك في ملازمته إذا لازمه الدائن، والحقّ في المطالبة بحبسه إذا ما طالب الدائن بحبس الكفيل، وإنّما كان له ذلك لأنّ المدين هو الذي أوقعه فيما صار إليه، فحق له أن يعامله بمثل ما يعامل به. وأما إذا كانت الكفالة بغير أمر المدين فليس للكفيل الحقّ في مطالبته بذلك، لأنّه متبرّع بالكفالة وبما يترتب عليها، فلا يثبت له حقّ إلزام غيره بما التزم به. وذهب المالكية إلى أنّ للضامن الحق في مطالبة المضمون بدفع ما عليه من الدين إلى الدائن ليخلص من الضمان، ويحقّ له أن يجبره على ذلك عند حلول الأجل، سواء طالبه الدائن أو لا، وسواء كانت الكفالة بإذن المدين أو بغير إذنه، وليس للضامن أن يطالب المدين بتسليم ما به الوفاء إليه ليدفعه إلى الدائن ; لأنّ المدين لا يبرأ بالدفع إليه. وذهب الشافعية إلى أنّ الضأمن إذا ضمن من غير إذن المضمون، لا يحقّ له أن يطالبه بتخليصه من الكفالة ; لأنّه لم يدخل في الضمان بإذنه، فلا يلزمه تخليصه منه، وإن ضمن بإذن المدين، ثم طالبه الدائن، جاز له مطالبته بأن يخلّصه من الكفالة ; لأنّه إذا جاز له أن يغرّمه إذا غرم جاز له كذلك أن يطالبه بتخليصه من الكفالة إذا طولب، وإن ضمن بإذن المدين، ولم يطالبه الدائن، فالأصحّ أنّه لا يستطيع مطالبة المدين ; لأنّه لما لم يكن له أن يغرّمه قبل أن يغرم لم يكن له أن يطالبه قبل أن يطالب، ومقابل الأصحّ في المذهب: أنّ له حق مطالبته بتخليصه، لأنّه شغل ذمته بالدين بإذنه، فجاز له أن يطالبه بتفريغ ذمته منه، كما إذا أعاره عيناً ليرهنها، كان له أن يطالب المستعير بتخليصها. وعند الحنابلة: إذا ضمن عن رجل بإذنه، فطولب الضامن، فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه ; لأنّه لزمه الأداء عنه بأمره، فكان له المطالبة بتبرئة ذمته، وإن لم يطالب الضامن لم يملك مطالبة المضمون عنه ; لأنّه لما لم يكن له الرّجوع بالدين قبل غرامته، لم يكن له المطالبة به قبل طلبه منه، وفيه وجه آخر: أنّ له المطالبة ; لأنّه شغل ذمته بإذنه، فكانت له المطالبة بتفريغها، كما لو استعار عيناً فرهنها، كان لصاحبها مطالبته بفكاكها وتفريغها من الرهن. ب - رجوع الضامن على المدين: 41 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الضأمن لا يحقّ له أن يطلب من المدين أن يسلّمه ما به وفاء الدين قبل قيامه بأدائه للدائن. ولا خلاف بينهم في أنّ الضأمن إذا أدى ما على المضمون بنية التبرّع عن المدين، لم يكن له حقّ الرّجوع عليه، أما إذا أدى الضامن حق الدائن بنية الرّجوع على المدين، ففي حكم رجوعه تفصيل وبيان كما يلي: أولاً - شروط الرّجوع: 42 - يشترط الحنفية لرجوع الكفيل على المكفول عنه ثلاثة شروط: الأول: أن تكون الكفالة بأمر المدين، إذا كان ممن يجوز إقراره بالدين على نفسه، فلو كان المدين صبيّاً مميّزاً أو محجوراً عليه لعته أو سفه، فلا يثبت للكفيل حقّ الرّجوع ; لأنّ الكفالة بالأمر في حقّ المكفول عنه استقراض واستقراض الصبيّ والمحجور عليه لا يتعلق به الضمان. والثاني: أن يتضمن كلام المدين ما يدلّ على أمر الضامن بأن يقوم بالضمان عنه، كأن يقول: اضمن عنّي، فإذا قال له: اضمن الدين الذي في ذمتي لفلان، دون أن يضيف الضمانلنفسه، لم يكن للكفيل حقّ الرّجوع عليه عند الأداء ; لأنّ هذا الأمر لا يتضمن طلب إقراض، وقال أبو يوسف: يرجع مطلقاً ; لأنّ الأداء تم بناء على الأمر بالضمان، وهو يقتضي أن يكون نائباً عنه في الأداء مطلقاً. والثالث: أن يترتب على أداء الكفيل إبراء ذمة المكفول ; لأنّ حق الرّجوع قد ثبت بناء على نيابة الكفيل عن المدين في أداء الدين، وعلى ذلك لو أدى الكفيل الدين للدائن، وهو لا يعلم أنّ المدين قد قام بأدائه، لم يكن له حقّ الرّجوع على المدين بما أدى، وإنّما يستردّ ما دفعه ممن دفعه إليه. وذهب المالكية إلى أنّ الضأمن إذا أدى دين المضمون ثبت له حقّ الرّجوع على المضمون، سواء أكانت الكفالة بإذنه أم كانت بدون إذنه، حتى لو أدى عن صغير بغير إذن وليّه، فله أن يرجع بما أدى في مال الصغير، وذلك لأنّه قام بوفاء ما كان واجباً على الأصيل، فيرجع بما غرم في هذه السبيل. وذهب الشافعية إلى أنّ للضامن الذي أدى الدين حق الرّجوع على المضمون إن وجد إذنه في الضمان والأداء جميعاً، وليس له حقّ الرّجوع إن انتفى إذنه فيهما، فإن أذن الأصيل في الضمان فقط وسكت عن الأداء، رجع الكفيل عليه في الأصحّ ; لأنّه أذن له في سبب الغرم، ومقابل الأصحّ: لا يثبت له حقّ الرّجوع ; لأنّ الغرم حصل بغير إذن، وإن أذن الأصيل في الأداء ولم يأذن في الضمان لا يرجع الكفيل عليه في الأصحّ ; لأنّ الغرم بالضمان ولم يأذن فيه، ومقابل الأصحّ: يثبت للكفيل حقّ الرّجوع على الأصيل ; لأنّه أسقط الدين عنه بإذنه. وذهب الحنابلة إلى أنّ الضأمن الذي أدى الدين المضمون بنية الرّجوع به على المدين، له أربعة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الضامن قد ضمن بإذن المدين، ثم أوفاه كذلك، فله حقّ الرّجوع، سواء قال له: اضمن عنّي وأدّ عنّي، أو أطلق الأذن بالضمان والأداء فلم يضفه إلى نفسه. الحالة الثانية: أن يكون الضامن قد ضمن بإذن المدين، ولكنّه أدى بدون إذنه، فله حقّ الرّجوع أيضاً ; لأنّ الأذن في الضمان يتضمن الأذن في الأداء عرفاً. الحالة الثالثة: أن يكون الضامن قد ضمن بدون إذن المدين، ولكنّه أدى الدين بإذنه، فله كذلك حقّ الرّجوع ; لأنّ أذن المدين بالأداء يدلّ على أنّه أراد أن يقوم الكفيل عنه فيه. الحالة الرابعة: أن يكون الضامن قد ضمن بدون إذن المدين، ثم أدى بدون إذن منه، ففيه روايتان: إحداهما: يرجع بما أدى ; لأنّه أداء مبرئ من دين واجب، فكان من ضمان مَنْ هو عليه، وقيام الإنسان بقضاء ما هو واجب على غيره يستلزم حق رجوعه عليه ما لم يكن متبرّعاً، والرّواية الأخرى: لا يرجع بشيء لأنّ صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم على الميّت المدين، بعد ضمان دينه تدلّ على أنّ ذمته برئت من الدين، ولو كان للضامن حقّ الرّجوع على المدين بمجرد ضمانه من غير إذنه ما برئت ذمة الميّت. ثانياً - كيفية الرّجوع: 43 - ذهب الحنفية إلى أنّ الكفيل الذي له حقّ الرّجوع يرجع على المكفول عنه بما أدى، إذا كان ما وفاه مثل الدين ومن جنسه ; لأنّ الكفيل - وقد أمر بالضمان وقام بالوفاء بناء عليه - يتملك الدين بذلك الوفاء، فإذا أداه من جنسه حل محل الدائن فيه، وإذا أدى أقل من الدين، فإنّما يتملك بقدر ما أدى، تجنّباً للرّبا بسبب اختلاف القدر مع اتّحاد الجنس، أما إذا أدى بغير جنسه مطلقاً، أو تصالح مع الدائن على بعض الدين، فإنّه يرجع على المدين بما ضمن - وهو الدين - لأنّه تملك الدين بالأداء، فيرجع بما تمت الكفالة عليه، وشبهة الرّبا غير واردة. وعند المالكية: أنّ الضأمن - الذي له حقّ الرّجوع - يرجع على المدين بمثل ما أدى إذا كان ما أداه من جنس الدين، سواء كان الدين مثليّاً أو قيميّاً، لأنّ الضأمن كالمسلّف، وفي السلف يرجع بالمثل حتى في المقومات، وإذا لم يكن ما أداه من جنس الدين، فإنّه يرجع على المكفول بالأقلّ من الدين وقيمة ما أدى، وذلك إذا لم يكن الضامن قد اشترى ما أدى به، فإنّه في هذه الحالة يرجع بثمنه ما لم يكن في شرائه محاباة، وإلا لم يرجع بما زاد على قيمته، وإذا تصالح الحميل والدائن فلا يرجع الضامن على المدين إلا بالأقلّ من الأمرين، الدين وقيمة ما صالح به. وذهب الشافعية إلى أنّ الضأمن - إذا ثبت له حقّ الرّجوع - فالأصحّ أنّه يرجع بما غرم، لا بما لم يغرم، فيرجع بالدين إن أداه، ويرجع بما أدى إن كان أقل، ويرجع بالأقلّ مما أدى ومن الدين إن صالح عن الدين بخلاف جنسه، ومقابل الأصحّ رجوعه بالدين كلّه ; لأنّه حصل البراءة منه بما فعل، والمسامحة جرت معه. وذهب الحنابلة إلى أنّ الضأمن يرجع على المضمون عنه بأقلّ الأمرين مما قضى أو قدر الدين ; لأنّه إن كان الأقلّ الدين فالزائد لم يكن واجباً، فهو متبرّع بأدائه، وإن كان المقضيّ أقل، فإنّما يرجع بما غرم، ولهذا لو أبرأه غريمه لم يرجع بشيء. وإن دفع عن الدين عرضاً رجع بأقلّ الأمرين من قيمته أو قدر الدين، فإن قضى المؤجل قبل أجله لم يرجع به قبل أجله ; لأنّه لا يجب له أكثر مما كان للغريم، فإن أحاله كانت الحوالة بمنزلة تقبيضه، ويرجع بالأقلّ مما أحال به أو قدر الدين، سواء قبض الغريم من المحال عليه، أو أبرأه، أو تعذر عليه الاستيفاء لفلس أو مطل، لأنّ نفس الحوالة كالإقباض. انتهاء الكفالة: 44 - انتهاء الكفالة يعني براءة ذمة الكفيل مما التزم به بعقد الكفالة، وقد تكون هذه البراءة تابعةً لانتهاء التزام المدين ; لأنّ التزام الكفيل تابع لالتزام الأصيل، وإذا سقط الأصل سقط التبع، كما تكون هذه البراءة بصفة أصلية، فتنتهي الكفالة ويبقى التزام الأصيل، إذ لا يلزم من انتهاء الالتزام التابع انتهاء الالتزام الأصليّ، وعلى ذلك يكون لانتهاء الكفالة حالتان: انتهاؤها تبعاً لانتهاء التزام الأصيل، وانتهاؤها بصفة أصلية. أ - انتهاء الكفالة تبعاً لانتهاء التزام الأصيل: 45 - تنتهي الكفالة بانقضاء الدين المكفول به بأيّ طريق من طرق انقضاء الدين، كالأداء والإبراء والمقاصة وغير ذلك. وتفصيل ذلك في مصطلح (دين ف / 70 - 78). أما الكفالة في العين فتنتهي بتسليم العين المكفولة. وأما الكفالة في البدن فتنتهي بإحضار المكفول ببدنه أو موته. ب - انتهاء الكفالة بصفة أصلية: تنتهي الكفالة بصفة أصلية بما يأتي: أولاً - مصالحة الكفيل الدائن: 46 - إذا صالح الكفيل الدائن على بعض الدين بشرط أن يبرئه من الكفالة، انتهت الكفالة بالنّسبة للدين كلّه، وبرئت ذمة الأصيل إزاء دائنه من الجزء الذي تم عليه الصّلح، ويرجع الكفيل على المدين وفقاً للشّروط وللأحكام التي تقدم بيانها (ر: ف / 39). ثانياً - الإبراء: 47 - إذا أبرأ الدائن الكفيل من التزامه، فإنّه هذا الإبراء يعدّ منه تنازلاً عن الكفالة، وتنتهي بذلك. (ر: إبراء ف / 14). ثالثاً - إلغاء عقد الكفالة: 48 - إذا بطل عقد الكفالة، أو فسخ، أو استعمل المكفول له حق الخيار، أو تحقق شرط البراءة منها، أو انقضت مدة الكفالة المؤقتة، أو نحو ذلك، فإنّ الكفالة تنتهي بالنّسبة للكفيل، دون أن تبرأ ذمة الأصيل نحو دائنه (ر: ف / 7). رابعاً - موت الكفيل بالبدن: 49 - إذا مات الكفيل في ضمان الوجه أو في ضمان الطلب، فإنّ الكفالة تنتهي ; لأنّه لم يبق قادراً على إحضار المكفول بنفسه، ولا التفتيش عنه أو الدلالة عليه. خامساً - تسليم العين المكفولة: 50 - إذا سلم الكفيل العين المضمونة بنفسها إن كانت قائمةً، أو رد مثلها أو دفع قيمتها إن كانت هالكةً، فإنّه يبرأ من التزامه، وتنتهي الكفالة بذلك.
نهاية الجزء الرابع والثلاثين / الموسوعة الفقهية
|